لم يكن يعرف أبو القاسم الشابي(ت1934)، أن أبيات قصيدته "إذا الشعب يوما أراد الحياة.."، ستُغنى في تظاهرات "الثورة" التي أطاحت برئيس سفيه حكم بلده قهرا لمدة تجاوزت 24 عاما. لقد غنّى الشابي للحياة وغنّى مستنهضا قومه ضد المستعمر الفرنسي، أنشد وهو يتلوّى من المرض في أواخر عمره القصير للإرادة التي تنشد التحرر، وترفع التحدي، تلك الإرادة التي انفجرت يوم 18 دجنبر 2011 في وجه بن علي المستبد، كما انفجرت القبائل التونسية في دجنبر 1881 ضد الاستعمار الفرنسي. يقول الشابي منشدا: إذا الشعبُ يومًا أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدرْ ولا بدَّ لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسرْ ذلك هو شعار "الثورة" التونسية، إذ بالرغم من المبالغة الممقوتة في الشطر الثاني من البيت الأول، خاصة إذا عُرف أن الشاعر الشاب كان مُهتما بالتعبير أكثر من التفكير، كما يقول نُقاده، فإن الشابي الذي ألهم التونسيون ضد فرنسا، وقوّى حماسهم من أجل تحقيق أملهم في الحياة، هو نفسه الذي ألهم وألهب مشاعر التونسيين في شوارع المدن والقرى وهي تهتف ضد الرئيس المخلوع "ديكاج". شعارت الثورة التونسية جمعت بين العفوية والاستعارة، يخطب بن علي فترد عليه جموع المتظاهرين:" لا منابر لا خطب.. الشوارع والغضب"، يعدهم بالتشغيل فيردون:"التشغيل استحقاق، يا عصابة السراق"، يعد بالإصلاح فيرد المحتجون:"تونس حرة حرة، بن علي على برَّه"، ومن أجل كرامتهم يؤكدون مرة أخرى:"خبز وماء، وبن علي لا"، يُكرر بن علي وعوده الفارغة في خطاب ثان فيرد الشعب هاتفا بشعار أقوى:"الشعب يريد إسقاط النظام"، يزيد بن علي فيقول إنه خدم تونس وحماها، فتهتف الجماهير مرددة النشيد الوطني:"حماة الحمى يا حماة الحمى". لقد سطرت ثورة تونس كل القيم التي قامت من أجلها الشعوب العربية قومتها، كان أول من أطلق شعار "الشعب يريد.."، وكانت أول من سطرت القيم العليا للحراك الثوري العربي، الكرامة، والحرية، والديمقراطية، والعدالة، لذا ما إن استكملت دورتها الأولى بهروب بن علي حتى شرعت عروش باقي الظلمة من الحكام العرب في الاهتزاز. تسمّت "ثورة" تونس بثورة الكرامة، وأطلق عليها الغربيون "ثورة الياسمين"، واحتراسا سمّاها آخرون بثورة الأحرار، ورغم اختلاف التسميات، فإن الحدث هو الأهم، أما الشعار فهو يختزل الظاهرة، يعبر عنها بأناقة وجمالية، ببساطة وعفوية، يُقربها من الناس كي تعيش بينهم، ويعبر عن تطور الحدث في تفاصيله ومنعرجاته، فالشعار يلاحق الزمن، يُفجر المعاني والقيم النبيلة التي قد لا تعكسها الكلمات والخطب الرنانة، إنه يحاكي دواخل الأنفس في جماعيتها وقد تحررت من أنانيتها. حتى إذا استوى الوعي وتعمق، أنشد الشعب بكل تلاوينه السياسية والفكرية مع الشابي مرة أخرى:" إذا الشعب يوما أراد الحياة...فلابد أن يستجيب القدر/ ولا بد لليل أن ينجلى ... ولا بد للقيد أن ينكسر. ثم يُكرر مرات ومرات، كأنما يريد أن يشبع من الكلمات التي يستذكر بها وعيه العميق.