العنوان ليس من عندي وإنما هو للراحل الكبير محمد جلال كشك قبل أكثر من عشرين عاماً في مقال كتبه بصحيفة الأخبار رداً على الماركسيين، عندما ضبط عدداً منهم يغير مواقفه بحفنة من الدولارات. وموضوعنا هنا هو «الدولار» وسحره الذي يخلب ألباب من يعبدونه، ويستبعد من يسيل لعابهم له، ويسخرهم حيثما يريد، والمناسبة هنا ما يتردد منذ قيام الثورة المصرية عن ملايين الدولارات التي تتساقط من البيت الأبيض والعواصم الغربية على منظمات المجتمع المدني في مصر (الجمعيات الأهلية ومراكز الدراسات) بزعم دعم الديمقراطية، ولم يشرح لنا أحد حتى الآن أي دعم وكيف ومن الذي يقوم بالعملية؟! المهم أن أربعين مليون دولار وصلت من الولاياتالمتحدة رأساً دون علم السلطات لعدد من تلك المنظمات ومنها جمعيات غير رسمية، ومن المنتظر أن يرتفع المبلغ إلى مائة وأربعين مليون دولار. وهناك عشرون مليون يورو أخرى أعلنت "كاثرين أشتون" ممثلة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، عن تخصيصها لدعم منظمات المجتمع المدني المصرية، (الأهرام السبت 9 / 7/ 2011م). القصة نفسها حدثت في أوكرانيا عام 2005م، وتمكنت الولاياتالمتحدة يومها عبر مساعدات «دعم الديمقراطية» من التأثير علي الانتخابات الرئاسية وتولية رئيس تابع لها، وقد اعترفت بذلك وزيرة الخارجية الأمريكية وقتها «مادلين أولبرايت»، فما أشبه الليلة بالبارحة! أعود لما يجري في مصر فقد احتجت د. فايزة أبوالنجا وزيرة التخطيط والتعاون الدولي لدى السفارة الأمريكية بالقاهرة، بسبب ما وصفته ب«انتهاك الوكالة الأمريكية للتنمية (USAID) للسيادة المصرية، وعبّر مجلس الوزراء عن نفس الموقف، لكن أحداً في الحكومة لم يُطلع الرأي العام على قائمة الجمعيات والمنظمات والمراكز التي تتلقى تلك الأموال المسمومة، ولم تُطلع الحكومة الرأي العام على الخطوات التي ستتخذها لوقف تلك الجريمة في حق الوطن، والتي مازالت مستمرة حتى على مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) التي يتم من خلالها التواصل مع بعض المؤسسات وتقديم ملايين الدولارات إليها، فقد كشفت الناشطة إيناس الجابي عضو «ائتلاف الثوار الأحرار»، أنها تلقت عبر صفحتها على ال«فيسبوك» مليوناً و500 ألف دولار، وأكدت أن هناك معونات خارجية أرسلت لبعض القوى السياسية دون تسمية لكنها قالت: إن العديد من الشرفاء رفضوا تلقي هذه المعونات. المعروف عن الغرب عموماً أنه لا يقدم دولاراً واحداً لنا أو لأي جهة في العالم حتى ولو كانت مساعدات إنسانية لوجه الله بل كل دولار يقدمه ملفوف بشروط تنقص من السيادة، وتفتح ثغرات في جدار الوطن.. فلماذا في مسألة ما يسميه «دعم الديمقراطية» يقدم ملايينه بكرم وسخاء؟! الإجابة واضحة، وهي أن مثل تلك المساعدات هي الطريق لصناعة الحكم على الطريقة الأمريكية، وتشكيل سلطة البلاد من أتباع الولاياتالمتحدة. وقد كانت مثل تلك المساعدات وغيرها تتنشر في ربوع مصر عبر المؤسسات ذات التوجه الليبرالي والعلماني الموالية للنظام السابق، وكان كل شيء يتم تحت سمع وبصر النظام السابق، ولم لا؟ ألم يكن صديق الصهاينة الحميم وحبيب الأمريكان؟ ولم نلحظ أي تقدم للديمقراطية التي يدعون دعمها، بل شاهدنا الكبت والفساد والتسلط والتبعية. أعود مرة أخرى لما جرى في أوكرانيا عقب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وتوجه أوكرانيا كغيرها من دول الاتحاد السوفييتي نحو تشكيل نظام ديمقراطي.. يومها دخلت الولاياتالمتحدة في سباق مع روسيا والقوي الكبري في المنطقة مثل الصين والهند للاستحواذ على النفوذ في المنطقة، فكان التدخل الأمريكي على أشده لتشكيل نظم الحكم الجديدة في دول الانفكاك السوفييتي بما يضمن قوة ونفوذاً أمريكياً واسعاً على حساب النفوذ الروسي، وكان الطريق لذلك هو دعم منظمات المجتمع المدني والجمعيات والمراكز والمؤسسات بملايين الدولارات الأمريكية حتى تكون ذراعاً قوية في تغيير قناعات الناس، وتغيير توجهات المجتمع، وقام عدد من المؤسسات الأمريكية التي تعمل تحت «يافطات» دعم الديمقراطية مثل: «المؤسسة الديمقراطية الوطنية» التابعة للحزب الديمقراطي، و«المؤسسة الجمهورية العالمية» التابعة للحزب الجمهوري، ومؤسسة المجتمع المنفتح للمليادير اليهودي «جورج سوروس»، قامت تحت غطاء نشر الديمقراطية عبر فرق مدربة تدريباً جيداً بتحريك الشعب الأوكراني نحو ما تريده الولاياتالمتحدة. ووقفت بكل قوة مع رجلها «فيكتور يوشنكو» ضد الفائر في الانتخابات الرئاسية «فيكتور يانوكوفيتش»، وتمت إعادة الانتخابات بعد أن قامت مؤسسات دعم الديمقراطية الأمريكية الموجودة في أوكرانيا بحشد الجماهير في شوارع العاصمة «كييف»، وقامت وسائل الإعلام الغربية بنقل الحدث على أنه صراع شعب من أجل الديمقراطية، خاصة أن الأوكرانيين عاشوا ردحاً من الزمان تحت قمع نظام فاسد، وكانوا كمصر الآن يتوقون إلى أمل العيش في ظل نظام ديمقراطي، ولكنهم خُدعوا بأكذوبة دعم الديمقراطية التي كانت تخفي تحتها مخططاً للسيطرة على البلاد، ونهب ثرواتها.. يومها أفاق الشعب على سراب، فقد كان هو الخاسر الأول مما جرى، واليوم يكررونها في مصر، وسيخيب سعيهم إن شاء الله. كاتب مصري مدير تحرير مجلة "المجتمع" الكويتية