انخرط العلماء والوعاظ والأئمة والقيمون الدينيون على صعيد المملكة في الدعوة للتصويت على الدستور الجديد، بما لهم من المكانة الأدبية في نفوس رواد المساجد، وشكلت أنشطتهم العلمية الأسبوعين قبل التصويت سواء في دروس الوعظ والإرشاد أو في خطب الجمعة أو في اللقاءات العامة والخاصة حديث العام والخاص عن هذه الهَبَّة اللافتة للأنظار لمشاركة هذه الفئة في الشأن العام، وكانت من أعمالهم التفصيلية الشارحة لمضامين الدستور ومرتكزات التصويت الإيجابي لفائدته أن تولت الخطبة الموحدة ليوم الجمعة الماضية تعالج بكل وضوح: لماذا يصوت العلماء بنعم لفائدة الدستور؟ الشأن العام باب من أبواب السياسة الشرعية إن الشأن العام جزء من مهمة العلماء الذين يستشعرون أمانة الميثاق الذي أخذه الله تعالى على هذه الطائفة، في قوله عز من قائل:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه". ويعتبر الانخراط في مجال الاستفتاءات والاستشارات العامة لمعرفة آراء المواطنين جزء من السياسة الشرعية التي ألَّف فيها الفقهاء قديما وحديثا، وبينوا حالها، وأصلوا أمرها، ووضعوا الضوابط العلمية والأخلاقية لمن ندب نفسه القيام بها. ولو اتسع حيز مقالة هذا اليوم لذكرنا جملة صالحة من المؤلفات العلمية التي اهتمت بالطرق الحكمية في السياسة الشرعية وإصلاح أحوال الراعي والرعية وما كان من أمر الآداب السلطانية. وقد جعلوا جلب المصلحة ودفع المفسدة هي أساس الشأن العام، فقالوا: السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي. وأكدوا أنه: أين ما كانت المصلحة والعدل، فثَمَّ شرع الله ودينه. ولا يليق بالعالم أن يلجم لسانه في أمر العامة، حيث يتكلم كل الناس ويحتمي هو بالسكوت. فإن اللجام الذي تحدث عنه صلى الله عليه وسلم في حق من رضي بذلك لا يكون إلا للدواب. نعم المسؤولة إن نعم التي قالها العلماء نعم مسؤولة وليست مهرِّجة، فالعالم يعلم أن الكلام مسؤولية، وانه إذا قال كلمة أن يقولها بالحق، ولذلك لا تزال كلمتهم عند الناس مسموعة، ووزنها لديهم ثقيل، ولأنها ثقيلة عندهم قبل أن تكون ثقيلة عند عموم الناس. ويعلمون قبل غيرهم أنه لا يجوز ترك الصدع بالحق، وأن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. وأن الساكت عن الحق اختار لنفسه أن يكون الشيطان الملبس على الناس أمر دينهم، وأنه إن لم ينطلق لسانه بالحق الذي يدين الله تعالى به، فإنه قد اختار أن يكون بهيمة تلجم باللجام كما صح في خبر المصطفى صلى الله عليه وسلم. لذلك كانت نعم التي قالها العلماء، نعم مسؤولة تحتاج إلى مواصلة المسير ومتابعة مآلات التصويت حتى لا يضيع أو ينحرف عن حقيقته ومقاصده. فوجب على المسؤولية التي بدأوا بها أن يدوموا عليها، فإنما الأعمال بالخواتيم. مؤسسة العلماء وإسلامية الدولة إن هذا الفصل الذي تم التنصيص عليه كنا نعتقد أنه يشكل إجماعا، ولكن إلى وقت متأخر من يوم الجمعة التي طرح فيها جلالة الملك مشروع الدستور على المغاربة كان هناك من يريد نزع هذه الصفة عن الدولة المغربية. وقام مجموعة من الغيورين على هوية الأمة في البرامج الإذاعية والتلفزية وفي مهرجاناتهم الخطابية يقفون في وجه كل من سولت له نفسه أن ينتزع هذه الصفة التي يشهد التاريخ والجغرافية والسهول والجبار والوديان والبحار والشعب أنها لن تكون غير ذلك. ثم جاء التحكيم الملكي ليقطع الشك باليقين في هذا النزاع بإرجاع الأمور إلى نصابها وإبقاء ما كان على ما كان. وأن المملكة المغربية دولة إسلامية. المغرب بلد إسلامي هذا ما كان القوم يريدون من التغيير، أن البلاد إسلامية وليست الدولة. وهذا المجال مجال الأمة بكل أفرادها أن تدافع عنه، وليس من حق لجنة أو مجموعة أفراد أن يغيروا هوية الأمة، فإن اللجنة كلفت بوضع مشروع الدستور ولم تكلف بتغيير هوية المغاربة. ومثل هذا التغيير يلزم الرجوع فيه إلى العلماء المؤتمنين على دين الناس وهويتهم فإنه مجالهم. وهم يتحملون المسؤولية أمام الله تعالى إن فرطوا أو أساؤوا القيام بواجبهم. الفرق بين الدولة والبلد إنهما متشابهان من النظرة الولى، ولكن البلد الإسلامي إنما هو وصف لا يلزم عنه قانونا أي حكم من الأحكام. ونحن في إطار قانون دستوري يجب تجنب لغو الكلام والاشتغال بالمواد القانونية الملزمة. ولكن عندما نقول بإسلامية الدولة، فمعناه قانونا أن الدولة بوزارتها ومؤسساتها وجمعياتها وأحزابها ومنظماتها..الخ، ملزمة دستوريا أن تنطلق من الاسلام ومقاصده في جميع أعمالها، وتنأى عن أي عمل يناقضه. ومعناه دستوريا وقانونيا أن يرفع المغاربة الدعوة قضائيا ضد كل وزير أو رئيس حزب أو جمعية أو جماعة .. انطلق في تدبير أمر الدولة من غير المرجعية الاسلامية.وما يراه الناس من المخالفات الشرعية القطعية، بالإضافة إلى مخالفته للشرع ابتداءً، فإنه بلغة القوم يعد مخالفة للدستور الذي هو الميثاق الجامع للأمة التي اختارته. ودين الدولة الاسلام معناه أيضا بعد أن صوت المغاربة عليه بما يشبه الاجماع، أن على العلماء والفقهاء والدعاة في هذا البلد مسؤولية التدافع والمكافحة من أجل تنزيل مقتضيات الدستور، وملاءمة القوانين مع الشريعة الاسلامية السمحة، فإنهم عند القيام بهذه المسؤولية لم يكونوا مطالبين بغير احترام الدستور والقانون. إن القول بأن المملكة المغربية بلد إسلامي هو وصف لا ينشأ عنه أي إلزام والتزام، فماذا سينشأ على القول بأن فلانا أحمر أو أسود أو أصفر..إلا إخبار السامعين وإعطاؤهم معلومة هي من باب السماء فوقنا. أما القول بأن المملكة دولة إسلامية، فإنه ينشأ عنه التزام الدولة بجملة أمور منها: الأول: احترام الدين الاسلامي وهو الشعور العام في الفضاءات العامة. الثاني: الدفاع عنه ضد كل من تطاول عليه في الداخل أو الخارج. الثالث: العمل على تنزيل أحكام الدين الاسلامي في البرامج التربوية والثقافية والسياسية والإعلامية...الخ. وكل إخلال بهذه الالتزام يعد تقصيرا في أقل الأحوال أو مصادمة للدستور مقصودة في حال آخر. ويحق للعلماء وللأمة ولأي جمعية أو مؤسسة أو حزب أن يحاسب المخلين بمواد الدستور وأن يقدموا العرائض إلى السلطات العمومية لإنصافهم ومحاسبة من تجرأ على هويتهم(الفصل15). بل إن الدستور يمنح في مثل هذه الحالة وفي غيرها من الحالات المواطنين والمواطنات الحق في تقديم بدائل قانونية وملتمسات في مجال التشريع(الفصل14). مؤسسة العلماء ودورها في عضوية المحكمة الدستورية لقد نص الفصل115 من الدستور على أعضاء المحكمة الدستورية وذكر منهم: عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى. إن هيئة العلماء من اليوم تتحمل مسؤولية عظيمة أمام الله عز وجل في شأن الأمة، ثم أمام الشعب المغربي الذي صوت بنعم بنسبة كادت أن تكون إجماعا، ثم أمام جلالة الملك الذي هو حامي حمى الملة والدين. وتتمثل هذه المسؤولية في طبيعة عمل المحكمة الدستورية، والتي تتمثل أساسا في مراقبة السلطة التشريعية التي هي البرلمان، هل ما سنه ممثلو الأمة فيه ما يخالف الدستور أو يخالف القوانين الجاري بها العمل. والأمر الثاني أن المحكمة الدستورية هيئة قضائية عندما تختلف الفرق النيابية والهيئات والمؤسسات والوزارات في تفسير نص قانوني وتأويله يكونون ملزمين الالتجاء إليها للحسم في التنازعات.ويكون وجود هيئة العلماء في هذه المحكمة الحق في المراقبة وإيقاف كل ما يصادم هوية الأمة أو لا يعمل على تعزيز هذه الهوية. لأن الدستور الجديد يلزم الدولة أن تعمل على تعبئة كل الوسائل المتاحة من أجل التنشئة على التشبت بالهوية المغربية، والثوابت الوطنية الراسخة(الفصل31). مؤسسة العلماء ودورها في عضوية المجلس الأعلى للسلطة القضائية لقد نص الفصل115 من الدستور على أعضاء المجلس الأعلى للسلطذة القضائية وذكر منهم: عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى. والقضاء هو الأمن والعدل والاستقرار، وهو أساس الملك. يجب على الجميع أن يشعر في نفسه بالأمن إن ظلم أن ينصف عند القضاء. والله تعالى عَدَّ العدل في القضاء واجب بين كل الناس على اختلاف مراتبهم وأديانهم، فقال في كتابه:"وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل". فأمر بالعدل بين الناس وليس بين المسلمين فقط. وبدخول هيئة العلماء المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فالأمل هو تعزيز الثقة في القضاء، فإن الشعب لا يريد بعد اليوم السماع بالمظالم والانتهاكات لحقوق الانسان وإصدار الأحكام عبر الهاتف وغيره. ولقد أعلن جلالة الملك محمد السادس نصره الله تعالى أن ملف 16 ماي قد وقع فيه تجاوزات ومظالم، وأعلن وزير العدل السابق الذي مضى إلى ربه مثل ذلك. وإننا نريد بدخول العلماء هيئة القضاء الضرب بيد من حديد على يد كل من يهجم على أمننا وحياتنا.. ونريد في الوقت نفسه أن يحمى كل متهم وإنسان. وأن يتم الاشتغال على إخراج كل من ثبت أنه دخل السجن مظلوما، وأن لا يحاسب الناس على آرائهم وأفكارهم. ماذا نريد من هيئة العلماء بعد التصويت على الدستور بعد الانخراط المسؤول للعلماء في الاستفتاء على الدستور، يريد الشعب وقد تكلم عبر التصويت، ما يلي: - عودة العلماء صمام أمان الدولة والمجتمع إلى مواقعهم الحقيقية، المتمثلة في تعزيز وتقوية الأمن الروحي للمواطنين والمواطنات، والإعلان عن الحضور الحقيقي في الحياة العامة. فلا يعقل أن يتكلم كل الناس فيما يلِّم بالمغرب من أحداث عظام ودون ذلك، ويتكلم من يحسن ومن يسيء، ولا يتكلم العلماء. لا يجوز بعد اليوم أن يقبل العالم الحجر عليه أو يختار هو ذلك. - أن يحضر العلماء في المؤسسات وفق القانون من أجل تعزيز الثقافة البانية، إذ لا يعقل مرة أخرى أن يتواجد كل الناس أو يبحثون عن مكان للتواجد في مؤسسات الدولة والقرار، ولا نجد العالم في أي مؤسسة. - أن يتمتع العلماء بالحرية: فإذا كان القضاة لأول مرة يعترف لهم بحقهم في حرية التعبير والانخراط في الجمعيات أو إنشائها باستثناء الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية(الفصل11). فإن ما يسري عليهم ينبغي أن يسري على العلماء أيضا، للاعتبارات الآتية: أولا: تأهليهم بإدماجهم في الواقع عبر المخالطة والمخابرة وليس عن طريق السماع عنه. والابتعاد عن الاندماج في المجتمع هو الذي جعل مؤسستهم جزرا مهجورة عن واقع الناس وهمومهم وأحلامهم وآمالهم. ثانيا: حتى يكونوا صمام أمان للدولة من كل غلو وتطرف ديني أو لاديني. فوجودهم يعطيهم الصفة المستحقة في التصحيح والتصويب والتسديد، بكل أدب ويسر .. مما هو معروف عن سادتنا من أهل العلم والفضل. ثالثا: حتى يساهموا هم بدورهم في مجال البناء والتشييد الذي أراده جلالة الملك رخاء للشعب المغربي. فالعلماء لهم قولهم فيما يتكلم فيه الناس ويعيشونه، أما أن يتكلم الجميع ويطلب من العالم أن يبقى موقرا محترما بالصمت، فهذه قسمة ضيزى، وفكرة غادرة ماكرة. من أجل هذه الإرادة التي بسطنا بعضا من معالمها لسادتنا العلماء، قلنا نعم للدستور، وحرضنا المواطنين على التصويت بنعم، نعم المسؤولة وليست المهرجة. إذ المسلم مسؤول أمام ربه عن كل كلمة يقولها، أن يقولها بحق وعدل. فنعم للدستور بعد التصويت عليه، ونعم لدور العلماء في الأمة، فإنه لم يعد بالإمكان بعد الانخراط المسؤول للعلماء في الدعوة للتصويت لفائدته إبعاد الدين عن الحياة العامة. ولقد قلنا وكتبنا أنه ليس معقولا أن يكون دين الدولة رسميا هو الاسلام، ثم هو يغيب عمليا، ويغيب أهله المدافعون عنه أو يُغَيَّبُون، وهم العلماء. وسنبقى نقول ونكتب ونصيح حتى تعود الأمور إلى نصابها، فلن نرفع الراية البيضاء حتى ينصره الله تعالى أو نهلك دونه.