يتذكر الجميع العبارة المتداولة :"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وهي وإن كانت لا تصح نسبتها لرسول الله صل الله عليه وسلم، فإنه يمكن الاستدلال بها ، كما يمكن التصرف فيها بالزيادة و النقصان. والمتتبع لما جرى في المغرب في النصف الأول من السنة الميلادية 2011 يجد بأننا دخلنا حراكا كبيرا بكل المقاييس وينتظرنا حراك أكبر. وشواهد هذا الحراك الكبير حجم التجمعات والمسيرات والمهرجانات والمقالات وغير ذلك كثير... وفي كل ذلك كان التدافع والتنافس. وإذا أردنا أن نسترجع الأحداث نستطيع القول بأن أبرز الأحداث كانت الإعلان عن تنظيم مسيرات 20 فبراير، وقد صار هذا اليوم عنوانا لحركة تسمت باسمه تعددت مشارب المنخرطين فيها والداعمين لها وتعددت أيضا مشارب المقاطعين لها والمتحفظين على مسارها، بل وجد أيضا عدد غير يسير من المنشقين عنها أو الخارجين عن خياراتها. ومن الأيام الفاصلة في هذا الحراك كان يوم 9 من مارس، وهو اليوم الذي توجه فيه الملك بخطاب للشعب أعلن فيه عن الشروع في إصلاحات دستورية عميقة. وانقسم الناس بشأن تشكيل اللجنة بين من يرى فيها دستورا ممنوحا، ومن رأى فيها غيابا للعلماء، وبين من قبل بها على مضض وراهن على نتائج أعمالها بغض النظر عن تشكيلتها. وتشكلت كما هو معلوم ما اصطلح عليه الآلية السياسية للمتابعة والتي كانت أيضا مجالا للتدافع والتنافس بين مختلف الرؤى. وفتح المجال لتلقي مقترحات التعديل بحسب كل ألوان الطيف الموجودة من أحزاب سياسية ومنظمات نقابية وجمعيات وفاعلين في المجتمع المدني . وقد تطلب كل ذلك من أصحابه ما تطلب من الجهود والتضحيات. وأحسب أن المذكرات المقدمة للجنة لو جمعت لشكلت وثيقة أساسية لحوار وطني هادئ بين مختلف الفاعلين لتحرير مساحات التوافق التي تتطلب التعاون والتكامل ،وتحرير مساحات الاختلاف وفتح نقاش عميق هادئ بشأنها . ثم كان يوم الجمعة 17 يونيو حين توجه الملك بخطاب إلى الشعب يعرض عليه مشروع الدستور ويدعوه إلى التصويت بنعم.لتنطلق بعد ذلك سلسلة من المهرجانات واللقاءات والندوات في ربوع المملكة لشرح مضامين الدستور، واستمرت بالمقابل أنشطة أخرى عديدة تدعو إلى مقاطعة التصويت، وإلى رفض الدستور الذي لم يرق بحسب هذه الأطراف إلى ما كانت تطمح إليه... ثم كان يوم فاتح يوليوز وفيه كان التحدي هو حجم المشاركة على اعتبار أن الدعوة لم تكن إلى التصويت ب" لا" بل ركزت على الدعوة إلى المقاطعة . وبحسب التقارير الرسمية نسبة التصويت تجاوزت 70 في المائة . وهي نسبة مريحة جدا، وموضوعية أيضا بحكم ظروف عدة ومعطيات مختلفة . إن كل الذي سبق الإعلان عن نتيجة الاستفتاء هو جهاد كبير، لكن الجهاد الأكبر هو جهاد التفعيل وحسن التنزيل. ثم إن كثيرا من فصول الدستور قد كانت موجودة في الدستور السابق ولكن المواطن ينتظر أن يراها مجسدة في الواقع. الجهاد الأكبر يبدأ بدور الجهات المسؤولة عند وضع القوانين التنظيمية التي يحيل عليها الدستور في أكثر من فصل والكل يعلم خطورة التفاصيل وأهمية التفاصيل... الجهاد الأكبر يبدأ أيضا بدور الأحزاب السياسية التي أسند لها الدستور أدوارا كبيرة، كيف تكون أحزاب تشتغل على مدار السنة وفي اتصال وتفاعل دائم مع قضايا المواطنين وانشغالاتهم لكي يعرفها الناس في السراء والضراء وليس فقط أيام التصويت والانتخابات. الجهاد الأكبر يبدأ بدور العلماء خاصة مع التعديلات الهامة التي جاءت في الدستور المصوت عليه، بحيث أصبح المجلس العلمي الأعلى مؤسسة دستورية ، وللعلماء تمثيلية في المحكمة الدستورية وفي المجلس الأعلى للسلطة القضائية. والسؤال هو عن مدى تفعيل هذه المأسسة؟ وتفعيل هذه التمثيلة ؟الظن بعلمائنا أن يكونوا ممن قال تعالى فيهم :" الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً " الجهاد الأكبر يبدأ بتفعيل دور المواطنين والمواطنات في كل ما يعني الوطن كما جاء في الفصل 37 وفيه :" على جميع المواطنات والمواطنين احترام الدستور والتقيد بالقانون ويتعين عليهم ممارسة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بأداء الواجبات" إن جهادا أكبر ينتظرنا جميعا : جهات مسؤولة، وأحزاب، ونقابات، وعلماء، ومفكرين، وحركات إسلامية، وجمعيات، وعموم المواطنين والمواطنات ... إن النبوغ المغربي كما عبر عنه علامة المغرب الشيخ عبد الله كنون رحمه الله قد تجلى مرة أخرى في هذا الإنجاز الذي هو بمثابة ثورة ملك وشعب جديدة نريدها أن تكون نموذجا ولكي تكون كذلك وجب إنجاحها ومن أجل ذلك وجب انخراط الجميع فيها :" إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ".