في الرد على مقال(مرتكزات الخطاب السياسي لعبد الإله بنكيران) للأستاذ أحمد الشقيري المديني ما كنت لأتدخل بموضوع كهذا وأنا أرى أن أمامنا مهام ثقيلة ولحظة تاريخية مفصلية تستدعي القفز على الجراح ومناقشة الأفكار بدل الأشخاص وطرح المشاريع بدل الدخول في سجالات، ولكني رأيت أمرا أحسبه عظيما، رأيت قصائد مدح، ومساحيق تجميل وخطاب يؤسس وينظر لأمور غير مستساغة. وقلت في نفسي ما أشبه الليلة بالبارحة، والسكوت في معرض البيان بيان إقرار وموافقة أو اقتناع وإذعان. لقد تكلم من قبل الأخ أمحجور فقفز في حركة رياضية سريعة على خطأ الأخ الأمين العام لينتقل إلى محاسبة للنوايا وتسفيه لموقف إخوة رأوا غير ما رأى آخرون، ولمست الحاجة على التعقيب لكن قلت ما أحوجنا اليوم لمناقشة مهام الحزب ومستقبله عوض الأمور المسطرية على أهميتها. ثم جاء الأستاذ الشقيري بمقال مفاجأة لم نعهدها في سلوكاتنا، لكونها تنتمي إلى تراث المشيخة أو خطاب القائد الملهم والملهم بفتح الهاء وكسرها. ويشهد الله أني كنت ولا زلت من المحبين لأخي الشقيري والمعجبين بكتاباته الدعوية، ولكن هالني أن يتورط هو الآخر في أمر كهذا وفي هذه اللحظة بالذات. وانتظرت أياما علني أرى من يكفيني مؤونة الخوض في الموضوع، فلما لم ألحظ تعقيبا آثرت تقديم بعض الملاحظات التي أعتبرها تندرج في إطار نقاش عادي لا بد من تناوله برحابة صدر وبدون خلفيات مسبقة، نقاش لا يعني نكاية في أحد، ولا تبرءا من الحزب، ولا سعيا لفتنة، ولا نشرا لغسيل، ولكن لتوضيح أمور ولو تكلم الشقيري داخل المؤسسات لكان جوابي له داخليا. أقول لأخي الشقيري حفظه الله وبارك فيه لقد منعنا ديننا الحنيف، كما يعلم، من قطع أعناق الأصحاب بالإغراق في المدح والتزكية، ولا ينبغي أن يمنعنا انبهارنا أو حبنا لمسؤول ما من النظرة الموضوعية المنصفة. ولقد قدمت لنا السيرة النبوية وسير الصحابة الكرام والخلفاء نموذجا إنسانيا رائعا في القيادة. و لقد حددت الدراسات الحديثة في مجال الاجتماع البشري وعلم الإدارة والتنمية البشرية مواصفات علمية للقائد الناجح فلنبحث عنها في مظانها حتى نعرض ذواتنا وقياداتنا على المعايير المعتمدة ونطور من أدائنا الفردي والجماعي، وبداية لا أنكر أن للأستاذ بنكيران مساهمات مقدرة في بناء العمل الإسلامي خاصة عند حركة الإصلاح والتجديد سابقا أسأل الله أن يجدها في ميزان حسناته، ولكن إضفاء الصوابية إن لم تكن العصمة على أفعاله كلها واعتباره قائدا يسبق أصحابه بأفكار جريئة ومشاريع سباقة لم تعرفها الحركة الإسلامية من قبل؛ أمر يستدعي التوقف. وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة أساسية قد تشكل المدخل الرئيسي لفهم كثير من المواقف، وهي إن قراءة تاريخ الحركة الإسلامية تقتضي إنصافا وتجردا ومسؤولية. وهو ما يغيب مع الأسف في كثير من الأحيان وأقولها بمرارة في خطاب الأستاذ بنكيران وحوارييه. فالسيد الأمين العام في مداخلاته وحواراته دائما (الحوار الأخير مع حميد برادة في القناة الثانية نموذجا) يختزل الحركة الإسلامية في حركة الإصلاح والتجديد سابقا، ثم يختزل حركة الإصلاح والتجديد في شخصه هو، وإذا كان هذا الأمر مستساغا عند البعض ممن أخرجهم بنكيران، ليس وحده طبعا، من ظلمات الراديكالية إلى أنوار الاعتدال، ومن عمل السراديب إلى العمل الرسمي والمعلن، ومن، ومن... فإن آخرين كثر لا يرون هذا الفضل ولا يتقاسمون هذه الصورة، وهم ثلاثة أصناف: 1- صنف عاصر الأحداث وشارك في صياغة وبناء الجماعة الإسلامية ويدرك هؤلاء أكثر من غيرهم كم هي المنزلقات التي كادت تؤدي إليها فردانية القائد وتسرعه دون أن ينكر الكثير منهم فضله. 2- صنف التحق بالحركة الإسلامية بعد مدة أو بحزب العدالة والتنمية، فهو لا يرى أسطورة القائد الملهم ولكنه يرى أمامه قيادات كثيرة لكل فرد منها عناصر إيجابية ونقط ضعف، وسبحان من تفرد بالكمال. 3- الصنف الثالث وهو الذي يتم تغييب الحديث عنه وهو ما قصدته أساسا بالملاحظة /المدخل السالفة الذكر وهو من نشأ داخل الحركة الإسلامية منذ منتصف التسعينات قبل تأسيس الجماعة الإسلامية بل قبل الشبيبة الإسلامية نفسها ، هذا الطرف لا يحس بمزايا الأستاذ بنكيران الخارقة ولا بقوة أفكاره وجرأتها فقد عرفت التنظيمات المشكلة لرابطة المستقبل الإسلامي في أغلبها منذ البداية توجها وسطيا معتدلا، ولم تعش فترة الراديكالية لتنتقل بعدها بفعل الصدمة إلى العمل العلني المؤسساتي. وعند لحظة الانتقال إلى المؤسساتية والعلنية أرسل الأستاذ بنكيران إخوانا إلى الأستاذ الريسوني ليمدهم بتجربة الجمعية الإسلامية بالقصر الكبير، وعند الاقتناع بأهمية التربية كانت تجربة رابطة المستقبل الإسلامي ملهمة لإخوان الجماعة الإسلامية في وضع أول برنامج تربوي، وعند الإيمان بأهمية القطاع النسوي كانت تجربة الأستاذ عبد الرزاق المروري رحمه الله قد استوت على الجودي، كما عرف تنظيم الرابطة مبادرة لتأسيس حزب سياسي "حزب الوحدة والتنمية" بقيادة الدكتور لحسن الداودي لكنه لم يحصل على الترخيص شأنه شأن التجربة التي تلته ممثلة في حزب التجديد الوطني الذي حاول تأسيسه الإخوة في حركة الإصلاح والتجديد آنذاك. إن هذه الأصناف الثلاثة خاصة الجيل الجديد من أبناء حزب العدالة والتنمية لا تستسيغ الوضع المتميز الاستثنائي الذي توافق كثير من الإخوة على منحه للأستاذ بنكيران، كما لا تقبل تلك التعليقات من قبيل " وهاذاك راه بنكيران، وخلاص واش عاد غا تعرفوه"، والمتبوعة غالبا بابتسامة مستسلمة، كما لا يطيق سماع تلك الأسطوانة المتكررة "أشتي الأخ بنكيران راه مسكين قدم للحركة وفعل وفعل و...." في سياق تبرير أية ممارسة خاطثة على منوال " لعل الله اطلع على أهل بدر..." إن البعض وبسبب ذلك المنطلق الخاطئ المتمثل في اختزال التوحيد والإصلاح في حركة الإصلاح والتجديد واختزال هذه الأخيرة في الأستاذ عبد الإله بنكيران لم يستطع استيعاب التحولات في كثير من التصورات حتى بعد الانتقال إلى حزب العدالة والتنمية، ولا بد هنا من الإشارة لبعض الأمثلة على هذه التحولات حتى لا يتوقف التفكير النضالي للبعض منا في لحظة تاريخية قد خلت لها ما اكتسبت وعليها ما اكتسبت؛ فقد جعل الأستاذ بنكيران البيعة على عهد الجماعة الإسلامية بيعة مطلقة، وجعلتها حركة التوحيد والإصلاح بيعة شرعية مقيدة بالكتاب والسنة. وقد جعل الأستاذ بنكيران إمارة المؤمنين رافعة لمواجهة اليسار "أعداء الملك" بشكل آلي، بينما جعلت حركة التوحيد والإصلاح، من مبادئ ميثاقها، مبدأ التعاون على الخير مع الغير، كما جعلت من إمارة المومنين التزاما شرعيا يقيد الحاكم والمحكوم، ومن ثم تأثر بهذا التوجه حزب العدالة والتنمية. وقد رأى الأستاذ بنكيران في زمن سابق أن خيار الحركة هو المشاركة بدون شروط ومباشرة الإصلاح الأخلاقي والعمل الاجتماعي، وأكد أن مطلب الإصلاح الدستوري مطلب يساري لا ينبغي مسايرته، بينما رأت حركة التوحيد والإصلاح أن خيارها هو المشاركة والتدافع السلمي وتطوير أداء النظام السياسي بما يحقق مضامين الحكم الإصلاحي الراشد ثم جاء حزب العدالة والتنمية في مؤتمره الأخير ليؤكد من خلال أطروحة النضال الديمقراطي اعتماد المدخل الديمقراطي كأساس للعمل من أجل إقرار إصلاحات سياسية تعزز المسؤولية السياسية للحكومة، وتعزز صلاحيات ومصداقية المؤسسات المنتخبة، وتوفر الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتعيد الاعتبار للمشاركة السياسية، وتعزز نظام الحكامة. هذه بعض الأمثلة أراها كافية في هذا المقام وتلك كانت مقدمات لا بد منها، فلندخل إلى صلب الموضوع أولا - يقول الأستاذ الشقيري هداه الله: "فالأستاذ عبد الإله بنكيران عندما يتولى القيادة، يشبه القاطرة التي تجرّ بسرعة غير مألوفة لدى الركاب، مما يسبب لبعضهم غثيانا أو دوارا وربما حوادث خفيفة إلى متوسطة! فيقفز البعض من القطار السريع طلبا للسلامة، وينازع آخرون القائد داخل مقصورة القيادة،لكن الأغلبية تضبط الإيقاع الجديد فتسايره وتستأنس به." وأقول يا أخي، إن قفز البعض من القطار السريع لا يسمى طلبا للسلامة، ولكنه وصول إلى مرحلة تنهار فيها قوة البعض أو تضيق نفسه من جراء"الطحن التنظيمي" وكم فقدت الحركة- ولا أتحدث هنا عن المتساقطين أو المفتونين- من قادة أعلام ورواد مخلصين وأعضاء عاملين خرجوا من الحركة في "حوادث صغيرة ومتوسطة" لما ضاقت عليهم بما رحبت، هذه هي الخسارة المباشرة وأضيف ثانية وثالثة ورابعة، فأما الثانية فهي إعراض الكثيرين عن الانخراط في الحركة بسبب التشويش الذي أحدثته مواقف غير موزونة، وأما الثالثة فهي استنفاد الجهود والأعمار في إطفاء الحرائق التي تثيرها تلك التصريحات والمواقف، وأما الرابعة فهي فتور الكثيرين من أبناء الحركة وهم يشاهدون انحراف البوصلة أو تعويدهم على اعتماد معيار الأشخاص بدل الأفكار، والأخذ بمقولة:" إذا قالها الرئيس فقد صدق فهو العارف ببواطن الأمور، وفي قوله حكمة وإن خفيت" وهذا هو الذي سماه الشقيري ضبطا من طرف الأغلبية للإيقاع واستئناسا به ومسايرة له! ومن ذا الذي "نازع القائد داخل مقصورة القيادة"، إني أشهد أن جل المناهضين والمصححين للأخطاء كانوا من الزاهدين في المسؤولية والمناصب. وقد كان للطلبة، وهم أصحاب النفوس الأكثر صفاء والبعيدة عن حسابات المستقبل التنظيمي والولاءات والمجاملات، الحظ الوافر من التصويب والتصحيح لمسار الحركة ولم يكونوا طلاب قيادة فيما أعلم. وأضيف، عندما يتولى شخص القيادة فإنه يتضاعف عنده الإحساس بالمسؤولية وبمهمة الرعاية وأمانة القيادة، وأول ما يحرص عليه قائد القطار هو أن يسير فوق السكة المرسومة وفي الاتجاه المتفق عليه، وأن يحرص على سلامة الركاب جميعا وعلى استمتاعهم بالرحلة لا الشعور بالغثيان والرغبة في مغادرة القطار "حريص عليكم بالمومنين رءوف رحيم" أي منطق نتبع ؟ منطق رسول الله المسدد بالوحي ورغم ذلك يقول "أشيروا علي أيها الناس" أم منطق ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد؟ ثانيا- كان من الأجمل لو أن الأخ الشقيري استفاض في التحليل عند قوله:" وإذ يعيش العالم العربي منذ شهرين على إيقاع تحولات كبيرة وسريعة أسقطت أنظمة في المنطقة لم يكن أحد يتنبأ بمآلها، وكان لذلك أثره الواضح في الحراك الداخلي للمهتمين بالشأن العام عندنا،" أقول، وهنا مربط الفرس، إن هذا الحراك إذا كان قد اتخذ لدى حركة التوحيد والإصلاح منحى ايجابيا في عمومه رغم ما يمكن أن يسجل عليه المتابع من مؤاخذات، فإنه لدى الحزب قد جوبه بمعارضة قوية لدى بعض "القيادات التاريخية" والتي وقعت في مفارقات غريبة أبرزها: - الاستبشار بالحراك الجماهيري في عموم العالم العربي، واعتباره علامة نهاية زمن وبداية آخر والنزول في الشارع للتعبير عن المساندة والدعم، وبالمقابل اعتبار نفس هذا الحراك في المغرب مثار ريبة ومحركا لفتنة وترديد مقولات سدنة المخزن في التشكيك بنوايا المتظاهرين ومراميهم، - عدم الاستعداد لزحزحة نظرية التوافق مع الملك والتي لا تصل إلى موقف عبد الكريم الخطيب رحمه الله الذي خاطب الحسن الثاني بقوله إنه مستعد لمواجهته دفاعا عن الملكية، والذي رفض التوقيع على حالة الاستثناء، والذي طالب الحزب بالتصويت بلا على دستور 1996، والذي حزن لموقف الحزب من قانون خنق الحريات المسمى زورا قانون الإرهاب. هاته النظرية التي تفسر أية مطالبة بالإصلاحات السياسية على أنها خروج عن الملك والتي لا يمل أصحابها من التعبير بشكل ممجوج عن تعلقهم بالأهداب وتبرؤهم من ماضي الشبيبة، رغم أن الممارسة العملية والتوجهات الفكرية والأوراق الرسمية قد تجاوزت منذ زمن هذا المنطق، وهو تأكيد لا حاجة له ولا معنى له ولا نراه حتى عند من خططوا للانقلاب على الملكية، ومن حملوا السلاح في وجهها في السابق، ثم عادوا ليعتبروا أنفسهم روادا للعهد الجديد دون شعور بعقدة الماضي. - الانتقال من وصف متظاهري 20 فبراير ب"الطبالة والغياطة" والتوجس منهم والتشنيع عليهم وإبلاغ العموم بالتبرؤ ممن سار في دربهم وتحميله المسؤولية كاملة عن تصرفه ووصف من يخرج للتظاهر بأنه يغامر بالملكية إلى التضامن مع شباب 20 فبراير والتحاور معهم، والانتقال من وصف مطالب الإصلاحات بأنها انقلابية وفتنة إلى التصريح أن الشعب الذي لم يخرج يحمل نفس المطالب... والمتغير الوحيد المفسر لهذا الانتقال هو الخطاب الملكي ل9 مارس. - الانتقال من نعت إلياس العماري بالنعوت المعلومة إلى استقباله في مقر الحزب وانتشاله من عزلته... وبناء على ما سبق، أقترح على الأخ الشقيري أن يضيف مرتكزا آخر لخطاب لا يمكن تسميته بالوضوح ولا الواقعية ولا القوة ولا الاستقلالية...ولكنه إذا صدر من شخص آخر فلن أتردد من تسميته بالشعبوية والديماغوجية ثالثا- يقول أخي الشقيري: "إذا كانت قوة الأمين العام الحالي لحزب العدالة والتنمية وسرعة مبادراته تنزع به نحو الانفلات من القيود التي تفرضها مؤسسات الحزب، فإن المخرج من ذلك هو النقد البناء والاحتكام لتلك المؤسسات نفسها، لا الاستقالة منها! " وهنا أتفق معك أخي في القول بعدم صوابية اختيار الإخوة لمنحى الاستقالة دون أن يذهب رأيي إلى مصادرة حقهم المشروع في ممارسة قناعاتهم، فوجودهم في الأمانة العامة هو أمانة عامة ومسؤولية مركزية لا ينبغي التنحي عنها برغم الصعاب والمعاناة. ولكن اسمح لي أخي إذا كنت تقر بأن الأمين العام قد ينزع نحو الانفلات من القيود التي تفرضها مؤسسات الحزب فإن مسؤوليتك وأنت العضو بالأمانة تقتضي أن تقوم بدور أساسي في كبح هذا الانفلات مراعاة لمصلحة المشروع لا أن تكون عين الرضا عن كل عيب كليلة. وأنت تعلم الأجواء التي تمر بها لقاءات الأمانة العامة والطريقة التي يدير بها السيد الأمين العام الاجتماعات، هذه الطريقة التي تفسرها بمرتكز القوة ولكن لي وصفا آخر لها!. وأعتقد أن مواقف الكثيرين من أعضاء الأمانة العامة الساخطة خارج اللقاءات كانت دافعا أساسيا لإحساس هؤلاء الإخوة بالمرارة وبالاستنزاف. وعليه، فالسيد الأمين العام وباقي الأعضاء يتحملون نصيبا من المسؤولية في قرارات الاستقالة كل حسب مركزه ودوره. رابعا- يقول الأستاذ الشقيري: "المطالبة بإقالة الأمين العام لا يجب اللجوء إليها إلا عندما يصر هذا الأخير على تجاوز المؤسسات، وهو ما لم يصدر إلى الآن عن السيد عبد الإله بنكيران، أما التقدير السياسي فالناس فيه مختلفون، يصيبون ويخطئون. وطلب الإقالة له انعكاسات سلبية على الحزب، فضلا عن ندرة القيادات داخل أي تنظيم". طرح الأستاذ الشقيري من خلال هذه الفقرة ثلاثة مبررات تعارض المطالبة بإقالة الأمين العام؛ عدم إصرار الأستاذ بنكيران على تجاوز المؤسسات حتى الآن- الانعكاسات السلبية على الحزب – ندرة القيادات لا بد أن أؤكد على اتفاقي معه في القول أن التقدير السياسي يختلف فيه الناس فيصيبون ويخطئون، ولكن كيف يتم العمل عند الاختلاف؟ بل وكيف نعمل على تفادي الاختلاف متى أمكن ذلك؟ إن منطق الأشياء يقول بأننا نشهد واقعا جديدا بقدر ما يبشر به من فرص فهو يطرح تهديدات حقيقية ومحتملة، ويتطلب قيادة مستبصرة وسط أمواج عاتية ولا يقبل تصريحات متسرعة أو تصويتات متسرعة في أجواء غير طبيعية. إن منطق الأشياء لا يسمح بتضييق النقاش واختزاله فيمن مع ومن ضد، وإنما يفترض نقاشات واسعة في كل المستويات التنظيمية للحزب، فالقرارات المتخذة هنا أيا كانت طبيعتها لا تتعلق بتنظيم أحوال عادية وهو ما يستلزم أن تحظى بالمدارسة الكافية وبالقبول الجماعي حتى لا أقول الإجماع لأن تبعاتها تتعلق بمستقبل بلد بأسره وأمة بكاملها. وليسمح لي أخي، بعد هذه الملاحظة أن أناقش المبررات التي ساقها لرفض اللجوء إلى المطالبة (المطالبة فقط!) بإقالة السيد الأمين العام في ثلاث نقاط، 1- تجاوز المؤسسات أو التعارض بين قناعة الأمين العام وتوجهات الحزب إن القيادة الحقيقية يجب أن تمثل نبض الجماعة وتعبر عن همومها وتجسد صورتها الناطقة، وقد قدم الحزب في مؤتمره إطارا للتدافع السلمي تمثل في أطروحة النضال الديمقراطي، فإما أن يكون القائد مقتنعا بهذه الرؤية، عاملا على بلورتها، متحدثا بها داخليا وخارجيا وإلا فعليه أن يعلن استقالته من منصبه لعدم اتفاقه مع تلك الوثيقة، وله كما لغيره أن يعبر عن الاختلاف مع ما قررته هيئات الحزب في فضاءات النقاش الذي ينبغي أن يفتح داخل الحزب، أما السعي لكسب الوقت وامتصاص مشاعر التذمر وفرملة الحزب بجرعات زائدة من الحكمة فلا تعتبر حلولا ناجعة. إن هناك ممارسة مألوفة لدى بعض القيادة مع الأسف تقوم على أساس تجاوز التنظيم والاستخفاف بكل هيئاته وتجميد قراراته إذا كانت لا تساير ما درجوا عليه وألفوه وحسبوه جزءا من الثوابت. وقد تبدو هذه الفكرة غريبة ومتجنية، ولكن من كابد التنظيم، يعرف هذه الحقيقة ولمن على عينيه غشاوة، ودون الغوص في الشواهد الكثيرة من تاريخ الحركة، أسأل: لماذا لم تنعقد لجنة الإصلاحات الدستورية منذ المؤتمر إلى الآن؟ ولماذا لا يتم تفعيل أطروحة النضال الديمقراطي التي صادق عليها المؤتمر؟ لماذا لا نرى في حديث السيد الأمين العام في لقاءاته المتعددة أي تأسيس أو اعتماد على توجهات الحزب المنبثقة عن المؤتمر؟ ولماذا لم ينعقد المجلس الوطني لحد الساعة؟ بخصوص السؤال الأخير قيل لأن الحزب لم يجد قاعة تستوعب أعضاء المجلس الوطني في التواريخ المقررة سابقا! 2- صورة الحزب أو الانعكاسات السلبية: لقد كان انتخاب الأخ عبد الإله بنكيران أمينا عاما للحزب مفاجأة للكثيرين وتعبيرا عن استقلالية قرار الحزب في اختيار قيادته، وقد أثار البعض حينها تساؤلات ماكرة حول التناقض بين أطروحة النضال الديمقراطي ومرتكزات الخطاب السياسي للسيد الأمين العام الجديد. وكان الجواب أننا حزب مؤسسات نؤمن بالقيادة الجماعية، ولا نطبق النظام الرئاسي، وآية ذلك أن المجلس الوطني يعتبر في الهرم التنظيمي أعلى من الأمانة العامة وأن القرارات تتخذ بشكل ديمقراطي و...وأن الأستاذ بنكيران قد تغير كثيرا (وأعترف هنا أني كنت مخطئا). ولكننا شهدنا ولا نزال تعطيلا لتفعيل أطروحة الحزب، وأخوف ما أخافه أن يذهب الإخوة إلى المجلس الوطني - أسأل الله ألا يؤجل مرة أخرى- ليقتصر النقاش على المساطر، واستقالة أعضاء، وإقالة الأمين العام رغم أهمية هذه الأمور التنظيمية، ويغيب البحث الحقيقي حول موقع الحزب في خريطة التحولات السياسية السريعة وموقفه من الحراك الشعبي ومن المبادرات المطروحة. إن أخطر الانعكاسات السلبية التي قد تلحق الحزب تأتي من غموض الرؤية وتذبذب المواقف وغياب تصور واضح شامل ومجمع عليه حول الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما يراها الحزب. إن وجود خريطة طريق واضحة بموازاة إقالة الأمين العام أو بقاءه في منصبه وفق تصور جديد (قد يستفاد من تجربة الناطق الرسمي التي عرفتها حركة الإصلاح والتجديد...) هو أكبر رسالة تمحي آثار الانعكاسات السلبية التي لحقت الحزب في الآونة الأخيرة. 3- ندرة القيادات أو خطاب رجل المرحلة: كثيرا ما عرفت جلسات التداول لاختيار المسؤولين ترديد عبارة " إن فلانا هو رجل المرحلة ولذلك أدعو جميع الإخوة إلى التصويت عليه" وهو ما يستبطن قناعة لدى القائل بأن لا أحد يصلح لتلك المسؤولية غير ذلك المرشح، وتبقى عبارة ندرة القيادات تلطيفا لمفهوم الرجل الوحيد، وهو ما يحيلنا إلى مفهوم آخر أسميه " نظرية المظلة" والتي تعني اقتناع الأتباع في كثير من الأحزاب والجمعيات المغربية بل والعربية عموما بأن الزعيم الفلاني يمثل الضمانة الضرورية لأمن التنظيم من بطش المخزن أو لاستمرار وحدة التنظيم واستقراره، أو لنجاحه وفوزه، ويصيبهم الفزع الشديد من التهديد الديمقراطي لمركز القائد. وإذا حصل تغيير، فإن الحواريين لا يهدأ لهم بال حتى تستقر الأمور في يد الرمز مرة أخرى. وهو ما يفسر خوف الأتباع من زعزعة صورة الزعيم بالانتقاد بله التجريح، ومن البديهي أن هذا التصور المنحرف، الذي أخشى أن يمثل شركا خفيا يربط المشروع بالخلق لا بالخالق، ناتج بلا ريب عن تأثير ثقافة الاستبداد وتأليه الفرد. إن حزب العدالة والتنمية وهو يقاوم الاستبداد السياسي ويقف على أرضية النضال الديمقراطي، يعي أن ثقافة الاستبداد ونفسية الاستلاب لا تستثني أحدا بمن فيهم كوادر الحزب، ولذلك فقد وضع آليات تنظيمية للتجديد والمراقبة والمحاسبة تحسم مع تخوف الناس من التغيير وتمنع تغول مراكز القيادة فضلا عما تتيحه من تجديد للنخب والزعامات. وقبل أن أختم بمقترحات عملية للخروج من النفق، والمساهمة في وضع الحزب في الموقع الذي يناسبه على أرضية النضال الوطني؛ لا بد أن أجيب على بعض الشبهات التي قد تثار فتشوش على قراءة هذه السطور القراءة السليمة: 1- مقولة استهداف شخص الأستاذ عبد الإله بنكيران: كثيرا ما كانت هناك ملاحظات وتصويبات في المنهج عميقة وقوية وأحيانا حادة تقدم من طرف العديد من الإخوة للأخ بنكيران، وفي بعض الأحيان كان يتم استبعاده أو إعفاءه من بعض المهام، فكان بعض الحواريين يخرج بمقولة "هناك من يستهدف الأخ بنكيران" ويتم الطعن في النيات، ويطرح الأمر في صورة تظلمية في كثير من المحطات، لكن بعد هذه السنوات لا أعتقد أن مثل هذه المقولات ينبغي أن يلتفت إليها فالحق أحق أن يتبع، والنقاش ينصب حول المنهج والمواقف أما السرائر فالله يتولاها. ويشهد الله أني لا أحمل في قلبي ضغينة لأي عضو، وأحسب الأخ بنكيران طالبا لمرضاة الله عاملا بما تمليه عليه قناعاته وما يرى فيه صالح البلاد، ولا نزكي على الله أحدا، ولكني مع حبي له، كرهت فيه أفعالا، فاخترت التواصي بالحق والتواصي بالصبر بدلا من طريق المجاملات والمهادنات. 2- الحفاظ على الوحدة والنفس الوحدوي: وقد يقول قائل إن هذا الكلام يؤثر على الوحدة وعلى تماسك الحزب، ولكن هذا المذهب مردود عليه من وجوه؛ أولا إن الجسم القوي الواثق من نفسه لا تخيفه التحليلات الطبية ولا المعالجات الموضعية، ومتى كان علاج الجراحات في إخفائها والتستر عليها؟ ثانيا إني أعتقد أن كتابة قراءة أخرى للواقع هو الضامن لهذه الوحدة، فأنا أعلم علم اليقين أن قلوب الكثيرين تجيش بمثل هذه الأفكار وغيرها والتي إن لم يعبر عنها في جو هادئ يبتغي النصح والتسديد قد تجد أشكالا تعبيرية غير مناسبة ولا رشيدة، ثالثا إن كاتب هذه السطور ترك إخوة يستسقى بوجوههم الغمام إصرارا على طريق الوحدة وتقربا إلى الله بها فقد أحرقنا السفن بحمد الله منذ مدة ، وكلامي هنا من داخل البيت الذي أسكنه وسأظل فيه حتى لو قيل لي "أرض الله واسعة" إلا أن أرى "هوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه". مقترحات عملية: أعتقد أن التدبير الداخلي للحزب وخطابه السياسي يحتاج اليوم إلى وقفة ترشيدية أكثر من أي وقت مضى، فنحن أمام امتحان عملي لمؤسساتنا وقوانيننا الداخلية ولبرامجنا وآليات تنزيلها، وهو ما يستوجب الخروج بمرتكزات يمكن أن تشكل عواصم من قواصم قد نبتلى بها لا قدر الله، ومهما أسفرت عنه قرارات الحزب حول مستقبل الأمين العام والأعضاء المستقيلين من نتائج، فإننا نحتاج إلى ضوابط قد لا ترتبط كلها بشكل مباشر بما وقع ولكنها تبقى في رأيي المتواضع ذات أهمية إستراتيجية، وأقدمها في شكل نقاط مختصرة: 1- يجب أن يعلم الجميع أعضاء ومتعاطفين مقبلين على الحزب وأعداء متربصين أن الانخراط في العمل السياسي من خلال حزب العدالة والتنمية لا يمكن أن يكون وسيلة للاغتناء ولا يحقق مغانم مادية، وبهذا نسقط إحدى أهم حبائل المخزن العتيق في تدجين المناضلين ونحرر مواقف الأعضاء من الحسابات الصغيرة ونقي صف الحزب من المتملقين والوصوليين. فمدخول العضو الذي أصبح نائبا برلمانيا أو وزيرا أو غيره من المناصب لا يجب أن يلحقه تبديل بسبب هذه المسؤولية التي ابتلي بها، وما يستجد عليه من مصاريف معقولة بمناسبة قيامه بمهامه الجديدة يصرف له على شكل أتعاب، وتوضع لذلك المساطر الضرورية والتي تشمل باقي الامتيازات المادية، 2- يعبر عن رأي الحزب الناطق الرسمي (يتم إحداث هذه المهمة ضمن مواصفات معينة) أو الوثائق الصادرة عن مؤسسات الحزب واجتماعاتها، وبذلك نضمن حرية الأمين العام في التعبير عن آرائه الخاصة دون أن يتم ارتهان الحزب لمواقف غير محسومة سلفا. ختاما، أيها الإخوة أعضاء الأمانة العامة، أيها الإخوة أعضاء الحزب، أستسمحكم عذرا أن أخاطبكم ونفسي أولا بلغة النصيحة الواجبة البعيدة عن منطق الأستاذية والتعالي، وبكلام لا شك قد يبدو غريبا في منطق كثيرين ولكنكم تعرفونه حق المعرفة، أذكركم إخوتي ونفسي بالبدايات الأولى، والنيات الأولى، والمنطلقات التي جمعتنا، وأذكر الأمين العام وباقي الأعضاء بكلمة رائعة قالها في أيام خلت لا أذكرها بالحرف ولكنها تدور حول الفكرة التالية: "أي ربح أكسبه إذا قامت الدولة الإسلامية ودخلت النار". إن أغلب القياديين مضى من أعمارهم أكثر مما بقي، وإنه مهما اختلفنا أو اتفقنا، وناضلنا أو أحجمنا، ومهما تشعبت بنا الاختيارات والميولات، فإنا ولا شك سنعرض يوما نحن وصحائف أعمالنا على الله " سنكتب ما قدموا وآثارهم" " يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية". وإنما تصغر الأعمال وتكبر بالنيات، والتي تحتاج إلى تجديد في أول العمل ووسطه وآخره، فلينظر الساكتون في وقت الحاجة إلى البيان، ولينظر المتكلمون ببعض الحقيقة، ولينظر المحجمون في وقت الإقدام، ولينظر المتصدرون عند وجوب التريث، ولينظر المنتصرون لفلان أو علان، لينظر هؤلاء وغيرهم إلى البواعث الحقيقية لأعمالهم وليحرروها من حظوظ الهوى والشيطان، ولا يكون حظهم من سهرهم وتعبهم ونضالاتهم إطراء الناس أو تصدر المجالس أو غيرها من المكاسب الزائلة، ولتكن هجرتهم إلى الله وسعيهم وجهدهم وجهادهم ابتغاء لمرضاته. وإن القضية كل القضية والنهاية كل النهاية في طريقين لا ثالث لهما. " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" والله أعلم وأحكم./. ملحوظة على هامش المتن: انتهيت من كتابة المقال ودخلت على الانترنيت، من اجل إرسال المقال للنشر ووجدت مقالا للأخ العزيز عبد العزيز رباح "أريد أن أفهم" أتمنى أن تكون السطور السابقة مساهمة في الجواب عن السؤال إلا إذا كان القصد "لا أريد أن أفهم". وذكرت شعارا جميلا مع بعض التصرف: أتفهم أم أنت لا تفهم ** لماذا أنا صامد صامد لماذا أنا وطني المبادئ **صلب العزيمة لا أهزم وأقسم أن لا سلاما يكون إذا** الشعب لم ينتصر أقسم ضباب ضباب ولاح الطريق** فنادى رفيق ولبى رفيق أخى جاوز الظالمون المدى** فحق الجهاد وحق الفدا وهاذ الجماهير في صفنا **ودرب النضال يمد اليدا سنمضي سنمضي إلى ما نريد** وطن حر وشعب عتيد *عضو حزب العدالة والتنمية قيادي طلابي سابق داخل التوحيد والإصلاح