لم يجد الدكتور أحمد الريسوني كبير عناء في التماس أدلة العمل بالتقريب والتغليب، فنصوص القرآن شاهدة على مشروعية العمل بالظن، وآمرة بفعل الأحسن وسلوك المسلك الأحسن والتزام ما هو أقرب للتقوى. من ذلك قوله تعالى في العمل بالظن: (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) وقد علق العز بن عبد السلام على الآية وقال في شجرة المعارف والأحوال: «أمر الشرع باتباع ظنون مستفادة من أمارات تفيدها لما في ذلك من تحصيل المصالح المظنونة... وهذه الظنون: كل ظن مستفاد من دليل شرعي، كالظن المستفاد من الظواهر الأقيسة والأقارير والشهادات» ص 161 أما الأمر بفعل الأحسن فمثاله قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن) ..(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن..) ويعلق الريسوني على هذه الآيات قائلا: «فهذه الآيات تفيد أننا مطالبون أن نفعل أحسن ما يمكن فعله وأن نقول أحسن ما يمكن قوله، وأن نسلك أحسن ما يمكن سلوكه، وإذا أشكلت علينا الأمور والتبست خيرنا، وإذا اشتبهت علينا الأقوال انتقينا، وإذا اضطربت علينا المسالك تحرينا أسلمها، وإذا تضاربت أمامنا الآراء تمسكنا بأصحها، وإذا اختلطت علينا المصالح اخترنا أصلحها، وإذا تعارضت علينا الأدلة اتبعنا أرجحها وأقواها...» ص 162 أما قوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) وقوله تعالى: (وأن تعفو أقرب للتقوى) فيرى المؤلف أن هذه الآيات تعتبر أصلا في العمل بالتقريب لأن دلالاتها واضحة لا تخفى. وإذا انتقلنا من القرآن إلى السنة، وجدنا حديث "سددو وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل الجنة أحد عمله...» وحديث «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا...» فهذان الحديثان واضحان في رفع الحرج والتحذير من التنطع والدعوة إلى مسلك التقريب والتسديد إن اقتضته الأحوال ويشرح النووي المراد من الحديث فيقول: ومعنى سددوا وقاربوا اطلبوا السداد واعملوا به، وإن عجزتم، فقاربوه أي اقربوا منه، والسداد الصواب» ص 166. ويمضي المؤلف في جرد أمثلة أخرى بعد أن جعل الحديثين أصلا يستدل به على صحةالعمل بالتقريب والتغليب وهي أمثلة وشواهد تزكي هذا الأصل من ذلك: حديث إذا اجتهد الحاكم، وحديث إنما أنا بشروالحرص في الثمار حديث عائشة في وصف غسل النبي صلى الله عليه وسلم. وساق في آخر فصل دليل السنة قولا غنيا يعتبر من قبيل الاستقراء في مجال البيوع يقول فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: «...وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه هو التقريب..» ص 168 ويسوق المؤلف بعد دليل الكتاب والسنة دليل: بناء الأحكام في الشرع على المظنات الغالبة: فالتكليف مناطه العقل، ومظنة العقل البلوغ وليس كل البالغين ممن تتوفر فيهم شروط استيعاب التكليف الشرعي وليس من دونهم ممن تعذرت فيهم شروط الاستيعاب، إنما اقتضى التغليب أن يكون البلوغ مظنة العقل والتمييز وأمارة دالة عليها. كذلك الأمر في نصاب الزكاة، فقد اعتبره الشرع مظنة الغنى، فيجب عنده الزكاة، وإذا كان المتفق عليه أن الغني هو مناط وجوب الزكاة، فالنصاب هو مظنة هذا الغنى، وليس كل مالك للنصاب غنيا، وليس كل من لا يملك النصاب فقيرا، إنما التغليب اقتضى أن الغني غالبا ما يملك النصاب والفقير لا يملكه، والحكم إنما يبنى على المظنات الغالبة. أما دليل الإجماع فيرى المؤلف أن في هذا الموضوع إجماعات متعددة كلها تصب في الاستدلال على مشروعية العمل بالتقريب والتغليب ومنها: الإجماع على العمل بخبر الواحد، والإجماع على العمل بالترجيح، والإجماع على صحة الاجتهاد الظني، والإجماع على صحة العمل بالظن. وكلها إجماعات على مشروعية العمل بالتقريب والتغليب إن دخلنا في تحليل تفاصيلها، ويختم الدكتور الأدلة بدليل الضرورة والبداهة، أما الضرورة فقد اتضح من مقتضى الأحوال أن العمل بالتقريب والتغليب أو العمل بالظنون عموما أمر تفرضه الضرورة في كثير من الأحيان، وأما البداهة العقلية، فلزوم عدم تعطيل الأعمال والنصوص، وعدم الاكتفاء بمسلك التوقف إذ هو في جوهره تعطيل، فلزوم كل ذلك يفرض عند تعثر الحصول على اليقين والعمل بالراجح وترك المرجوح، واختيار الغالب وإطراح المغلوب يقول الدكتور الريسوني: «إن منع الاجتهاد بالظن ومنع العمل بالأدلة والدلالات الظنية سيفضي إلى قدر كبير من التعطل والشلل.. يقول العز بن عبد السلام، فلو عطلنا العمل بالظن المشروع لحصلنا أغلب المصالح بتحمل أندر المفاسد، ومقتضى رحمة الشرع تحصيل المصالح الكثير الغالبة وإن لزم من ذلك مفاسد قليلة نادرة». ص 173 وإذا كان المؤلف قد أحكم الاستدلال على نظرية التقريب والتغليب وبسط أدلة من الكتاب والسنة والإجماع وأيد هذه الأدلة بدليل الضرورة والبداهة، وكون أحكام الشريعة التي تبني على الظنون فإنه لابد من إيرادات على هذه الأدلة لابد من إشكالات واعتراضات تعتبر مناقشتها وردها تقوية للبناء النظري، كما يعتبر إغفالها مقدمة للاعتراض عليها وإبطالها، وهذه الاعتراضات تعتبر من قبيل المسائل المشتهرة في علم الأصول ويمكن إجمالها في إنكار العمل بالخبر الواحد، وإنكار حجية القياس، وإنكار الرأي والطن عموما واعتبار ذلك تشكيكا في الدين ،ومسألة تصويب المجتهد. ويلاحظ أن معظم هذه المسائل هي من مقولات الظاهرية، فابن حزم وهو خير ممثل لهذه المدرسة يرى أن أحاديث الآحاد إذا رواها العدل الثقة أفادت القطع ولم تفد الظن، وينكر كل دليل سوى ظواهر الكتاب والسنة، فلا إجماع إلا إجماع الصحابة، ولا قياس ولا حديث مرسل ولا قول صحابي ولا عمل أهل المدينة ولا شرع من قبلنا ولا استصلاح ولا استحسان ولا تأويل ولا تعليل، وقد عقد في الأحكام كتابه الأصولي فصولا في إبطال هذه الأدلة واعتبار القائلين لها من الخاذلين المخذولين وكما أن كتابه المحلي في الفقه فيه من المسائل الفقهية ما يدل على إعماله لمنهجه وإبطاله لآراء وأقوال المذاهب الأخرى. وتلتقي الشيعة الإمامية مع ابن حزم في إنكار القياس والرأي والاجتهاد... والناظر في هذه الإيرادات يرى أنها لا ترقى كي تكون اعتراضات مقبولة يمكن أن تبطل بها الأدلة التي ساقها المؤلف للاستدلال وتأصيل نظرية التقريب والتغليب ، وذلك لأن معظم هذه الإشكالات والاعتراضات ناقشها العلماء وأبانوا عن جوانب ضعفها، وكتب الأصول وعلوم الحديث فيها من الأدلة الحجاجية ما يكفي أقلها قوة وتماسكا هي إبطال ما ذهب إليه ابن حزم في إفادة خبر الواحد للقطع وإنكاره الأدلة: القياس والاستحسان والمصالح... وقد أعاد الدكتور الريسوني التحقيق في هذه الإجراءات وبسط الكلام فيها من خلال التحقيق في مصطلح القطع والظن ودلالتهما، كما حقق في بعض آراء ابن حزم وبين اضطرابها ووجه الإشكال فيها، وصل في مبحث تصويب المجتهدين عند أئمة الاجتهاد ليصل إلى كلمة أخيرة قال فيها: «الكلمة الفصل إنما هي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه المتلقي بالقبول والإجماع: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر،» فالحديث صريح بدرجة لا مزيد عليها في أن المجتهد يصيب ويخطئ، وما عدا هذه الحقيقة الساطعة فكله تكلفات وتأويلات لا تقوم على ساق» ص 222-221. الخلاصة أن الدكتور الريسوني ببسطه لأدلة النظرية ولدفعه للإيرادات عليها والاعتراضات قد قام بجهد كبير في تأصيل النظرية، فبعد وضوح مفهومها ودلالتها، وبيان تطبيقاتها وصورها داخل العلوم الإسلامية تزداد وضوحا في التصور وقوة في الوجود، وحجة في الشرعية من خلال مسلك التأصيل. بلال التليدي