كشف تطور النقاش الدستوري العمومي في الأشهر الماضية عن ثلاث مسارات متباينة ستكون محصلتها في المشروع المنتظر محددا لاتخاذ موقف منه، المسار الأول هم قضايا فصل السلط والعلاقة بينها وأنظمة الحكامة، والثاني قضايا الحقوق والحريات، أما الثالث فإشكالات الهوية المغربية والمرجعية الإسلامية، ولئن أفرز النقاش تقاربا كبيرا في المسارين الأول والثاني وأدى إلى نتائج جد إيجابية على مستوى المشروع الأولي للدستور يمكن القول أنها تجاوزت مقترحات أحزاب من أقصى الطيف المعارض، إلا أن المسار الثالث شهد تقاطبا حقيقيا إن لم نقل تناقضا مفصليا بين توجهات متباينة داخل المجتمع والنخب والدولة، وجعل من الصعب توقع حالة من الإجماع في حده الأدنى إذا ما فشلت اللجنة أو عجزت الآلية السياسية عن الوصول إلى الحلول المطلوبة لتلك التناقضات. اليوم نحن على المحك، والمعنيون بإنجاح هذا الورش الإصلاحي الكبير مطالبون بالانتباه لخطورة المرحلة الحالية من أجل استدراك ما ينبغي استدراكه قبل فوات الأوان، ذلك أن قضايا الهوية والمرجعية تعادل في قوتها باقي القضايا، بل إن طبيعة الحسم فيها على مستوى الوثيقة الدستورية يفتح البلاد إما على سيرورة من التشظي الهوياتي والتنافر في المرجعيات كما يفتحها عل سيرورة من التماسك الهوياتي والتكامل في المرجعيات، وكلا السيرورتين تحددان المستقبل الفعلي للنص الدستوري ومدى قدرته على تمكين البلاد من مؤسسات منتخبة قوية ذات مصداقية. لا نريد استباق صيغ الوثيقة الدستورية القادمة في تحديدها لمضامين القضايا ذات العلاقة بالهوية والمرجعية، لكن التوجس من حصول تراجع على المكتسبات المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية الحالية أمر مشروع خاصة في ظل التناقضات التي ظهرت من المذكرات المقدمة للجنة الاستشارية لتعديل الدستور، ومن هذه القضايا نذكر ما يهم عناصر تجسيد الحقيقة المجتمعية الراسخة المتعلقة بكون المغرب دولة إسلامية وتعويم هذا المعطى ضمن خليط من الروافد الهلامية أو بحديث مشوش عن حرية المعتقد وذلك عوض صيغة ضمان الحريات الدينية التي كانت واضحة وقوية، أو ما يتعلق بمدونة الأسرة أو عدم التنصيص على ما يهم تنزيل مقتضيات النص على رسمية اللغة العربية، أو إضعاف روابط الانتماء التاريخي والحضاري للمغرب والتي جعلت منه جزءا من العالم العربي والإسلامي، وهي قضايا من بين أخرى تمثل الصياغة المعتمدة فيها محددا مفصليا لتدقيق المقصود وبالتالي التمكين من بلورة موقف إيجابي أو سلبي من الدستور المعدل. قد يكون من المجازفة القول بأن المرجعية الإسلامية مهددة بأن تكون الخاسر الأكبر في هذه المراجعة، لكن التنبيه على مثل هذه المآلات ضروري حتى لا تتم الاستهانة بلحظة المدارسة الحالية على مستوى الآلية السياسية وذلك حتى لا تكون الوثيقة القادمة حاملة لتراجعات على مكتسبات تضمنتها كل الدساتير التي عرفها المغرب وحصل التخلي عنها دون ان يكون هناك ما يسندها في الواقع المغربي، اللهم إلا ابتزاز الخارج أو ضغوط جماعات المصالح الإيديولوجية النخبوية. إن المغرب مؤهل ومرشح لكسب رهان ملكية ديموقراطية قائمة على فصل سلط حقيقي وربط فعلي للمسؤولية بالمحاسبة، وبأفق يتجاوز الدول التي شهدت ثورات ورغم ذلك ما تزال تتعثر في بناء إطار دستوري ديموقراطي واسع، لكن التخوف هو أن يقع التشويش على ذلك بتراجعات لا تحفظ على الأقل مكتسبات الدساتير السابقة.