فجّر القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون فضيحة أممية بالتراجع عن تقرير قوي كان قد أعده بشأن حرب شتاء 2008 على غزة وتضمن إدانة واضحة للكيان الصهيوني في عدوانه المدمر على القطاع المحاصر تحت اسم ''الرصاص المصبوب'' واستخدم فيها كل ترسانته العسكرية ضد الفلسطينيين، فضلا عن أسلحة محرمة دوليا مثل قنابل الفوسفور الأبيض مما أوقع خسائر بشرية فادحة قاربت الألف وخمسمائة شهيد إضافة إلى آلاف الجرحى ودمار هائل في المنشآت والبنى التحتية. وضمّن غولدستون مقالا صحفيا يمكن اعتباره اعتذارا عن التقرير، حيث كتب لصحيفة ''واشنطن بوست''، السبت الماضي أن تقريره كان سيكون ''وثيقة مختلفة'' اليوم. وفيما خلف موقف القاضي اليهودي غولدستون استياء كبيرا في الأوساط الفلسطينية استغلت تل أبيب الفرصة للانقضاض على التقرير الذي سبب صدوره حرجا بالغا لها وأعلنت أنه سيعطيها الغطاء لتكرار نهجها الدموي في الحروب القادمة. واعتبر الجيش الصهيوني أن مقال القاضي غولدستون يمنح ''إسرائيل'' شرعية لقصف المناطق المأهولة بالمدنيين. وأكد متحدث عسكري صهيوني أنه سيتم تكرار مثل هذه العمليات في الحروب المقبلة في قطاع غزة ولبنان. وقال المتحدث باسم الجيش الصهيوني ''أفيحاي أدرعي'' لوكالة ''يونايتد برس انترناشونال''، أول أمس، إن ''الأمور لن تكون مختلفة في المواجهة المقبلة، إذ أن ما يقوله لنا هذا المقال بصورة واضحة هو أن الجيش الإسرائيلي تصرف بشكل سليم في الواقع المدني الذي فرضته حماس علينا''. وأردف ''نحن نربط هذا بخريطة مواقع حزب الله العسكرية في جنوب لبنان ونقول إنه في المرة المقبلة لن تكون الأمور مختلفة'' وأنه ''إذا وضع حزب الله مواقعه داخل تجمعات سكنية مدنية فإنه على الأرجح أن النتائج في المواجهة المقبلة لن تكون مختلفة''. وأضاف أدرعي أن ''قوانين الحرب الدولية والأنظمة والأوامر التي سيصدرها الجيش الإسرائيلي لقواته في المواجهات المقبلة، ستؤدي إلى مقتل مدنيين للأسف الشديد، لكن الآن تلقينا ختما آخر'' لتكرار قصف أماكن مأهولة بادعاء وجود مواقع عسكرية بداخلها. واعتبر المتحدث العسكري الصهيوني أن ''لمقال غولدستون والخط الذي اتبعه الآن يوجد وزن شعبي كبير للغاية سواء في البلاد أو العالم ونحن نأمل أن تسير هيئات دولية أخرى في أعقاب غولدستون والتي كانت قد أخذت استنتاجات التقرير كما هي، وأن تعرف هذه الهيئات كيف تكون مستقيمة مثل غولدستون والاعتراف بالحقيقة المنشورة الآن''. وتابع أدرعي ''إننا نقول إن هذا المقال يظهر أخيرا أن التحقيقات التي أجراها الجيش الإسرائيلي مع نفسه وضد دولة إسرائيل هو اعتراف بأنها كانت تحقيقات وفقا للمعايير الدولية ونذكر بأن النيابة العسكرية أجرت مئات التحقيقات العميقة قبل أن يصدر تقرير غولدستون وفي قسم كبير منها تم اتخاذ إجراءات قضائية ضد الضالعين في مخالفات''. وتابع أدرعي أن مقال غولدستون ''يوجه ضربة شديدة جدا إلى جميع المنظمات التي ''رقصت على الدم الإسرائيلي'' منذ عملية الرصاص المصبوب ويثبت أن الجيش الإسرائيلي هو أحد الجيوش الأخلاقية في العالم'' بحسب زعمه. لا تسامح مع ''غولدستون'' من جانبه، طالب رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، أول أمس، بإلغاء تقرير غولدستون بعد أن أقر الأخير إعادة النظر في تقريره بشأن حرب غزة، وبخاصة اتهام كيان العدو بتعمّد قتل المدنيين وارتكاب جرائم حرب. وقال وزير الدفاع الصهيوني إيهود باراك، أول أمس، إن على ''إسرائيل'' أن ترغم غولدستون على الظهور أمام الهيئات الدولية وخصوصا الأممالمتحدة للإدلاء بأقوال مشابهة لما كتبه في مقاله بصحيفة ''واشنطن بوست''. وأضاف الإرهابي باراك في حديث لإذاعة الجيش الصهيوني ''أنه أمر بالغ الأهمية ويجب مضاعفة هذه الجهود لإلغاء هذا التقرير''. وتابع ''سأعمل على تحقيق ذلك''، معبرا عن أسفه ''للضرر الذي سببه'' هذا التقرير. وركزت كافة الصحف الصهيونية، أول أمس، صفحاتها الأولى على ''أسف'' القاضي غولدستون. وكتبت ''يديعوت أحرونوت'' الأوسع انتشارا أنه ''من الواضح وأخيرا أن اتهامات غولدستون سببت ضررا لا يمكن إصلاحه لإسرائيل إلا أنه بعد عامين ونصف من التأخير قال إنه يدرك أنه ذهب بعيدا جدا''. وقال ''يارون ديكل'' الخبير في الشؤون السياسية للإذاعة العامة ''بعد كل الأضرار التي سببتها لنا استيقظت.. صباح الخير.. إلا أن الوقت متأخر جدا!..''. أما افتتاحية صحيفة ''معاريف''، فكتبت أن القاضي جنوب الأفريقي ''لا يستحق المغفرة لأنه تصرف بطريقة بائسة ومخزية ومخالفة لكل المعايير الأساسية للأخلاق والعدالة والحس السليم''. ومن جهتها، قالت صحيفة ''هارتس'' اليسارية إن تراجع القاضي غولدستون ''نصر إعلامي رائع لإسرائيل.. قام غولدستون بتمثيل شرعية إسرائيل أكثر من أية جهود كدولة متحضرة مطيعة للقانون''. استهجان فلسطيني في المقابل، أكدت حركة المقاومة الإسلامية ''حماس'' رفضها الخلط بين الحقائق التي توصل إليها فريق التحقيق الدولي في جريمة العدوان على غزة، وبين المواقف الشخصية والسياسية للقاضي غولدستون، مستهجنة رضوخ غولدستون للضغوط التي مورست عليه للتشكيك بنتائج التحقيق. ودعت الحركة، في بيان صادر عن مكتبها الإعلامي نشرها موقعها الالكتروني الرسمي، الدول المعنية والداعمة للعدالة الدولية والمنظمات الإنسانية والحقوقية كافة، إلى ''التمسك بنتائج التقرير، وإلى العمل على تفعيله في الهيئات التابعة للأمم المتحدة لمحاسبة المجرمين الصَّهاينة على الجرائم التي اقترفوها ضد أبناء شعبنا الفلسطيني خلال العدوان على غزة''. واستهجنت حركة ''حماس'' دعوة القاضي غولدستون إلى مراجعة التقرير الصادر عن لجنة أممية يرأسها، وعدم اعتماده من قبل الأممالمتحدة؛ مشيرة إلى أن هذا التقرير ''جاء بعد تحقيق ميداني، ومشاهدة للحقائق على الأرض من قبل اللجنة الدولية التي رأسها غولد ستون نفسه''. وأضافت: ''تلك الحقائق والوقائع شهد عليها العالم والعديد من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان''، موضحة أن هذا التشكيك في مضمون ونتائج التحقيق ''مخالفة للمبادئ الأخلاقية والقانونية، خاصة وأنَّه جاء نتيجة ضغوط سياسية ونفسية تعرَّض لها القاضي من قبل المنظمات الصهيونية في جنوب أفريقيا، والتي وعدت بالضغط عليه لإجباره على التراجع عن موقفه، كما اعترف بذلك ''أبرم كرنغل'' رئيس الفيدرالية الصهيونية في جنوب أفريقيا لصحيفة ''يديعوت أحرنوت'' اليوم''. وكان الدكتور سامي أبو زهري المتحدث باسم الحركة قد أعرب عن استغرابه من موقف غولدستون الذي أبدى تراجعه عن تقريره وتقبله للرواية الصهيونية رغم أن الاحتلال الصهيوني رفض استقباله أو التعاون معه، مقابل استقباله في غزة وتقديم كل التسهيلات لعمل فريق غولدستون. ودعا الدكتور سامي أبو زهري المتحدث باسم الحركة في تصريحٍ صحفي مكتوب نشره الموقع الرسمي للحركة، أول أمس، الأممالمتحدة إلى تنفيذ ما ورد في تقرير غولدستون لأن التقرير أصبح أحد الأوراق والوثائق الدولية. وقال أبو زهري: ''التقرير ليس ملكًا شخصيًّا لغولدستون، فقد شارك في وضعه فريق من القضاة الدوليين، إلى جانب غولدستون، هذا عدا عن أن التقرير اعتمد على جملة من الوثائق وشهادات شهود العيان في الميدان مما يزيد من قوة التقرير ومصداقيته''. ضغوط صهيونية وكان وزير خارجية العدو الصهيوني، أفيغدور ليبرمان، قد ألمح إلى أن تراجع القاضي ريتشارد غولدستون عن موقفه الذي تبناه في تقرير اللجنة الأممية، التي يرأسها، لتقصي حقائق العدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة، والذي تضمّن اتهامات لجيش الاحتلال وقادته بارتكاب ''جرائم حرب'' بحق المدنيين الفلسطينيين، إنما يأتي استجابة لضغوط مارستها عليه المحافل السياسية والعسكرية الصهيونية. وأوضح ليبرمان، في تصريحات متلفزة أدلى بها ليلة السبت الماضي، أن أقوال غولدستون المتأخرة ''والتي تضمنت تنكرًا ضمنيًّا لما جاء في تقريره من اتهامات صريحة تدين ''إسرائيل'' بسبب عملية ''الرصاص المصبوب'' على غزة، لم تكن مفاجئة بالنسبة له''. فيما أكّد، أن وزارتي الخارجية والقضاء ومكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وسلطات الجيش الصهيوني، ''بذلت جهودًا جبارة في هذا المضمار دون إحاطة الجمهور علمًا بذلك''، على حد قوله. وكان القاضي اليهودي غولدستون، قد قال في مقال نشرته صحيفة ''وشنطن بوست'' الأمريكية، الجمعة الماضية، إن التقرير الذي أصدره في أعقاب الحرب الصهيونية الأخيرة على غزة أواخر عام ,2008 ''كان سيفضي إلى استنتاجات مختلفة لو توفرت لديه المعلومات الموجودة بحوزته حاليًّا عن مجريات الأمور في القطاع''، حسب قوله. وزعم ''أنه توجد اليوم تفاصيل أوفى عما جرى في قطاع غزة''. وأعرب عن أسفه لعدم تعاون السلطات الصهيونية مع اللجنة برئاسته، مشيرًا إلى أن الاستنتاجات حول ارتكاب جرائم حرب كانت مختلفة لو توفرت لديه المعطيات التي نشرها كيان العدو خلال الأشهر الأخيرة. وفي السياق ذاته طالب رئيس الكيان الصهيوني شمعون بيريز، القاضي غولدستون ب''الاعتذار صراحة'' عمّا تبناه في تقريره السابق من اتهامات لجيش الاحتلال بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين في القطاع. وكانت سلطات الاحتلال قد توجهت السبت الماضي، إلى مجلس الأمن الدولي بطلب إلغاء ''تقرير غولدستون'' بعد تراجع رئيس لجنة التحقيق عمّا ورد فيه.