للفساد أركان وأصول، لعل أبرزها أربعة هي: الرشوة، واختلاس المال العام، والزبونية، وتزوير الانتخابات. وهي أصول تجعل من الفساد قضية معقدة وبنيوية، لا يمكن أن تقتصر آثارها على قطاع دون غيره، ولا على مؤسسة دون غيرها. وتفشي الفساد بأصوله المذكورة مقترن بالإرادة السياسية للدولة ومؤسسات القرار فيها، ولا يمكن بأي حال أن يكون مجرد فلتة أو أخطاء من هذا الطرف أو ذاك. فكيف هو وضع هذه الأصول في المغرب: الرشوة يحتل المغرب مرتبة متقدمة بين دول العالم في تفشي الرشوة، فهو يحتل حسب الرتبة 9 بين 17 دولة عربية شملها تقرير للجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، كما يحتل الرتبة 85 من بين 178 دولة تعتبر الرشوة ظاهرة مزمنة فيها. ووفق التقرير فإن القضاة والموظفين يعدان الفئات الأكثر ارتشاء، تتلوهما الشرطة، وحسب البارومتر العالمي ليس هناك قطاع واحد غير ملوث بهذه الآفة، بما في ذلك المجتمع المدني والأحزاب والبرلمان وأفراد من الجيش ووسائل الإعلام، باستثناء المؤسسات الدينية. وتؤكد الجمعية في غير تقرير لها أن للرشوة علاقة وثيقة بالمجال السياسي، خاصة في الانتخابات، حيث يلج المفسدون البرلمان مثلا من أجل الحصانة، وللتأثير أكثر على القرار السياسي. اختلاس المال العام رغم التكتم وغياب المعلومات الدقيقة حول حجم هذه الآفة في المغرب خلال العشر سنوات الأخيرة، فإن المعلومات التي تنشرها تقارير دولية تكشف أن أضخم مما يُتصور. في دجنبر الماضي نشرت أسبوعية ''جون أفريك'' تقريرا حول تهريب الأموال في القارة الإفريقية بين 1971 و,2008 قدرت ب 854 مليار درهم، ويتصدر المغرب قائمة الدول التي شملها التقرير، حيث تم استنزاف نحو 30 مليار دولار. وفي مطلع القرن المنصرم، سجل المغرب فضائح كبرى من أبرزها فضيحة القرض العقاري والسياحي، وفضيحة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. في الحالة الأولى بلغ حجم الاختلاسات إلى 1300 مليار سنتيم، حسب ما كشفته لجنة تقصي الحقائق البرلمانية التي شكلت في سنة .2000 أما في الحالة الثانية فقد توصلت لجنة تقصي الحقائق البرلمانية سنة 2002 إلى أن حجم الاختلاس فاق 115 مليار سنتيم. كلا المؤسستين وصلتا إلى حافة الإفلاس. المثير أن المتابعة القضائية التي تكفلت بها المحكمة الخاصة ثم أحيلت إلى محكمة الاستئناف بعد إلغاء الأولى لم تسفر عن أي شيء. ومن صور اختلاس المال العام التهرب الضريبي، وتؤكد ''ترانسبرانسي المغرب'' أن الإدارة الضريبية تعتبر من بين القطاعات الأكثر تعرضا للفساد. كما أبرزت أن النظام الضريبي يساهم في امتلاك الثروات لصالح أقلية وإفقار أغلبية السكان، فضلا على أنه يعاني من ضعف المساواة والتي تتناقض مع التصريحات الرسمية في العديد من المناسبات. الزبونية وهي آفة يتم من خلال شراء النخب، وإفساد الذمم، وتكوين طبقة من المنتفعين والمفسدين، وبالمقابل يتم تهميش الكفاءات وإقصاء ذوي النزاهة والأمانة. ففي غياب حكم القانون، يلجأ أي نظام سياسي إلى توسيع بطانته الفاسدة، عبر إغراق عدد ممكن وفي شتى المجالات في الفساد، والتضييق على الرافضين الأرزاق بقصد إرغامهم على الطاعة. إن الزبونية ليست سلوكا بسيطا يتم بموجبه تبادل المنافع والمصالح المشروعة وغير المشروعة بين موظفين صغار، بل هي من آليات الحكم والإخضاع لدى أي نظام سياسي يحافظ على نفسه بإشاعة الفساد واللاقانون. ومن صور الزبونية في المجال الاقتصادي بالمغرب والتي يعتمدها النظام السياسي مثلا منح ''لاكريمات''، وتوزيع ''مقالع الرمال'' التي تستفيد منها طبقة من المنتفعين خارج أي إطار قانوني خاص، وتوزيع رخص الصيد فوق أعالي البحار، ومن الصور كذلك تفويت أراضي الدولة بدرهم رمزي، وهو الأمر الذي أثار جدلا بين رجل الأعمال البارز ميلود الشعبي وشركة ''الضحى'' المقربة من دوائر القرار العليا على صفحات الإعلام. إذن، هي كلها صور تعبر عن طبقة واسعة من المنتفعين، تشتغل وفق منطق خاص بها، ويثار بشأنها شكوك أنها خارج القانون والشفافية. تزوير الانتخابات لقد ظل تزوير الانتخابات إحدى آليات ضبط المشهد السياسي، وإن تطورت تقنيات التزوير من مرحلة لأخرى، الهدف من ذلك إضعاف الخصم السياسي وإنهاكه. بما يؤدي إلى تقويض قاعدته الانتخابية، ودفعه نحو المساومة، وفي الأخير الاحتواء. وإذا كانت انتخابات 2002 قد عرفت نسبة نزاهة أكثر من سابقاتها، فإن مختلف الفاعلين يجمعون على أن الانتخابات التشريعية لسنة 2007 كانت بمثابة ''نكبة'' أعادت إلى الأذهان سطوة وزارة الداخلية وتسلط الدولة على الأحزاب، ودشنت حينها لمرحلة جديدة من الاستقطاب السياسي الحاد، موظفة آلية الحزب الإداري الأغلبي الذي تأسس من قبل فؤاد عالي الهمة. وقد أدت عملية التزوير بطريقة فجة وإقصائية منذ سنة 2003 في الانتخابات المحلية، إلى عزوف انتخابي حاد في انتخابات 2007 حيث صوّت أقل من 20% من المواطنين بشكل معبّر عنه. ومن جهة أخرى، تم دفع عدد واسع من الأعيان المشكوك في نزاهتهم إلى المشاركة مما أدى إلى تفشي استعمال المال العام في الانتخابات التشريعية والجماعية. كما أدى بعد ذلك، إلى نشاط ظاهرة الترحال الحزبي داخل المؤسسة التشريعية، مما وفر أرضية خصبة لتشكل أكبر فريق نيابي من قبل الحزب الجديد الذي يوصف بأنه حزب الدولة تأسس لمواجهة مشاركة الحركة الإسلامية. بناء على ما سبق، أفادت إحدى وثائق ويكيليكس مؤرخة في نونبر 2009 أن الفساد في المغرب خلال العشر سنوات الأخيرة اكتسى طابعا مؤسسيا. يخترق كافة المؤسسات الحيوية في البلاد.