قال الدكتور محمد السروتي الباحث المتخصص في قضايا التنصير، إن الرسالة التي يجب أن تعيها وتفهمها الجهات الرسمية في الدول المغاربية أن التنصير لم يعد يتغيا تحويل الناس من دينهم إلى النصرانية فقط وإنما أصبح يتوخى إيجاد مجموعة بشرية تدفع إلى إحداث التوتر الاجتماعي. ودعا في حوار مع ''التجديد'' إلى مواجهة الظاهرة بشكل جدي ومسؤول وبطرق عصرية حضارية من طرف العلماء والفقهاء والخطباء والوعاظ والأساتذة وكذا من الصحفيين والجمعيات والأحزاب، وغيرهم من المثقفين... كما يجب أن يكون دور السياسي المسلم قويا في مثل هذه الأمور حتى يسد الباب أمام المنصرين، لأن الأمر يتجاوز بكثير مسألة أن تكون قضية شخصية أو حرية فردية، لأنها مرتبطة بالدين والدين في حياة الأمة قضية وجودية. هل هناك تفاوت بين دول المغرب العربي من حيث تغلغل الحركات التنصيرية ونشاطها؟ شكلت الدول المغاربية على امتداد التاريخ قلعة حصينة للإسلام، فلم تفلح المحاولات الاستعمارية ولا الأعمال التنصيرية التي استهدفت الهوية الثقافية والدينية لهذه الدول، في ثني شعوب المنطقة عن الاعتزاز بالدين الإسلامي والدفاع عنه وبذل الغالي والنفيس في سبيل إقامته والحفاظ عليه. بيد أن هذا الفشل الذي تكبدته الأطراف التنصيرية والاستعمارية، لم يحل بينها وبين سلك سبل أخرى لتحقيق أهدافها، فكان الغزو الفكري التنصيري الذي سخر أحدث الإمكانيات وآخر المبتكرات، من أجل هدف واحد هو السعي لزعزعة العقيدة والتشكيك في الدين الإسلامي، فنجد الكنيسة الكاثوليكية ومنذ عقود عدة وهي تحاول اختراق منطقة المغرب العربي، وقد حقق نشاطها التنصيري بعض النجاح في المغرب والجزائر، بينما ظل الأمر في بدايته في تونس التي ظلت تحظر دخول منصّرين إليها رغم علمانيتها الشديدة... وقد استمر هذا الوضع حتى أنهاه الرئيس الحالي في الأعوام الماضية، بفتح الأبواب التونسية للمنظمات التنصيرية، رغبةً في الحصول على دعم اقتصادي من الفاتيكان وعدد من الدول الأوروبية، وتلافياً لضغوط الدولية التي لا تتوان عن اتهام تونس بأنها تمارس قيوداً على حرية الأديان... وللإشارة فإن موضوع التنصير في بلدان المغرب العربي الثلاثة المركزية (المغرب والجزائروتونس) تحول إلى واجهة الاهتمام الإعلامي في السنوات الأخيرة... والتحقت بركب الاهتمام دولة موريتانيا من خلال تقارير إعلامية ظهرت في الأسابيع القليلة الماضية تتحدث عن التغلل التنصيري في المجمتع الموريتاني... وصلت حد اعتراف رئيس الأسقفية الكاثوليكية بالدور التنصيري لكنيسته، والمطالبة بالسماح للموريتانيين بتغيير دينهم. وقد واكبت هذه الموجة الإعلامية ظهور تقارير تلفزية تحدث فيها المتنصرون الجدد بكل تبجح ولم يتوان بعضهم عن الشكوى من المضايقات والمطالبة بإلغاء المواد الدستورية التي تنص على أن الإسلام دين رسميا للدولة، وكذا عدم الخضوع لقوانين الأسرة المستندة إلى أحكام الشريعة الإسلامية في بعض موادها... كيف تفسر تغلغل هذه الحركات التنصيرية في دول المغرب العربي؟ هناك بعض السمات والعوامل تجعل مناطق معينة في العالم أكثر عرضة للظاهرة من غيرها، فيمكن مثلا الحديث عن الموقع الجغرافي لبعض المناطق خصوصا الحدودية منها؛ حسب درجة القرب أو البعد جغرافيا من الدولة التي تكون محطة انطلاق المنظمات التنصيرية... إضافة إلى سياسة الانفتاح الثقافي غير المنضبط على الآخر والتي لا تعني بالضرورة الدعوة للانغلاق والتحجر، بل هي دعوة لتعزيز وترسيخ الممانعة الثقافية المحافظة على كياننا وهويتنا من الانسلاخ والذوبان، والتي تجعلنا ذاتا فاعلة لا منفعلة فقط... إضافة إلى غياب الزجر القانوني والصمت الرسمي للسلطات إزاء هذه الظاهرة، وما يمكن أن نعتبره ''التقديس'' الاقتصادي للسياحة واعتمادها كنشاط اقتصادي أساسي، وهذه كلها عوامل تجعل الامتداد التنصيري يتفاوت من دولة إلى أخرى، وبين المناطق في الدولة الواحدة.. ما هي الآليات التي تستغلها هذه الحركات التنصيرية لتحقيق أغراضها في دول المغرب العربي وما هي أهدافها على المدى المتوسط او البعيد؟ يضيق المقام عن عد الأساليب والوسائل التنصيرية المعتمدة في الدول المغاربية، بيد أنه يمكن اعتماد التصنيف الذي سطره المنصرون أنفسهم في المؤتمر التنصيري الذي عقد في الولاياتالمتحدةالأمريكية الذي حدد الأساليب التنصيرية وآليات اشتغاله في ثلاثة: الأول هو الأسلوب المباشر، والثاني هو الأسلوب الشامل، والثالث هو الأسلوب غير المباشر... وجل الحركات التنصيرية في كافة البلدان، تندرج أساليبها ضمن هذا الإطار العام المرسوم، ويتم تنويع الوسائل وتجديدها، وتطويعها للبيئة التي تعمل بها. بيد أن لها ثلاث مداخل أساسية هي:''الفقر، الجهل، المرض''، فأنى وجد هذا الثالوث وفي أي منطقة، كانت هناك فرصة مواتية وأرضا خصبة للتنصير كما يقول المنصرون، الشيء الذي ''يفسر امتدادها (أي ظاهرة التنصير) في كثير من جيوب الفقر والجهل، بينما توقف ذلك التمدد في بيئات مثقفة مكتفية اقتصاديا، إذ أدرك المنصرون مثلا ذلك الميل في الطبيعة الإنسانية الذي يجعل المرء يضحي بأشياء كثيرة في ملكه حتى يتخلص من آلامه ومعاناته، فعمدوا إلى استغلال تلك الحاجة أبشع استغلال، فسخروا الطب لغاياتهم الدنيئة فيقولون: ''حيث تجد بشرا تجد آلاما وحيث تكون الآلام، تكون الحاجة إلى الطبيب. وحيث تكون الحاجة، فهناك فرصة مناسبة للتنصير''. ولم يكتفوا باستغلال الحاجة فقط للوصول لأهدافهم، بل عمدوا إلى افتعالها سواء أكانت حروبا أو نزاعات... وذلك من أجل إيجاد هذه الحاجة ليتسنى لهم العمل من خلالها، فيقولون: '' ليكون هناك تحول فلا بد من وجود أزمات معينة ومشاكل وعوامل إعداد وتهيئة تدفع الناس أفرادا وجماعات خارج حالة التوازن التي اعتادوها. وقد تأتي هذه الأمور على شكل عوامل طبيعية كالفقر والمرض والكوارث والحروب، وقد تكون معنوية مثل التفرقة العنصرية، وقد ذهب بعض المحللين السياسيين للقول؛ أن ثورة القبائل الجزائر. في السنوات الماضية كان من ورائها جهات تنصيريةب لذا كانت نسبة ارتداد الجزائريين عن دين الإسلام تقدر بستة أفراد يوميا، خلال فترة الاضطرابات. ويعلنون اعتناق النصرانية. وفي غياب هذه الأوضاع المهيأة فلن تكون هناك تحولات كبيرة إلى النصرانية''. والملاحظ أيضا الاستهداف التنصيري الواضح للشباب المغاربي والنابع بالأساس من أهمية ودور هذه الفئة الاجتماعية في تحديد مجموعة من الخيارات الاستراتيجبة، فهم عصب المجتمع وقوامه، وبعضهم سيحمل مشعل القرار في الغد... لذلك لم يكن غريب أن تجعل المنظمات التنصيرية من الشباب أحد المداخل الكبرى للتنصير، والتي يمكن من أن تسهل تحقيق الهدف المنشود للوصول إلى نسبة 10% في المغرب من المتنصرين في أفق سنة ,2020 والاهتمام الكبير بفئة الشباب العاطل بالجزائر اهتمام ممزوج بإغراءات المنصرين بالعمل والمال كطوق نجاة من جحيم البطالة والفقر والصراعات الداخلية، وتكون النتيجة هي الارتداد عن الإسلام كرد فعل على الإحساس بالتهميش والبطالة وعدم القدرة على توفير تكاليف الزواج... وهو رد فعل عامّي لا يميز بين دين الإسلام كدين وبين ممارسات الأشخاص في مختلف مستوياتهم. فعلى الرغم من أن الإحصائيات التي ترد بين الفينة والأخرى عن طموحات المنصرين في المنطقة المغاربية تطرح أكثر من تساؤل ففي ظل الواقع المعيش ونتائج المنصرين يعتبرها البعض ضربا من الخيال، ومجرد حلم مجنون... بيد أن المتتبع الراصد لمنشوراتهم وأنشطتهم يدرك جيدا أنهم جادون في العمل وساعون لذلك بشتى السبل و بمختلف الإغراءات التي تتضمن الدعم المادي وتوفير فرص للسفر والزواج، وكذا تقديم مختلف الخدمات الاجتماعية والصحية والرياضية والترفيهية، بل إن هذا الاهتمام بالفئة ساهم في تطوير الوسائل التنصيرية التي كانت بالأمس القريب تعتمد فقط على مخاطبة عواطف الشباب، ويمكن لنا في الصدد أن نقدم أمثلة على ذلك، خصوصا ما يروج في السنوات الأخيرة من أفلام وأشرطة عنائية؛ وأفلام تنصيرية عدة... وكان من نتائج الاهتمام التنصيري بالشباب أيضا، ظهور كتابات تتعدي العلمية ومخاطبة العقول لا القلوب، مستغلة فراغ بعض الشباب وقلة معطياته الصحيحة عن الإسلام وضعف تكوينه الديني، ليشحن بأكاذيب موضوعة... غايتها تشويه الدين الإسلامي وتنفير الشباب منه. وهذا ليس بغريب على هذه المنظمات مادام شعار عملهم: ''إذا لم تستطع تنصير مسلم فلا تمكنه من أن يكون مسلماً حقيقيا''... كيف تواجه دول المغرب العربي انتشار هذه التيارات التنصيرية في صفوف المواطنين، وهل هناك اختلاف في الإجراءات المعتمدة في هذه المواجهة؟ جل المتتبعين يرون أنه من الصعوبة بمكان على الجهات الرسمية الدول المغاربية أن تواجه التنصير بترسانتها القانونية ومقتضياتها التشريعية، بيد أنها يمكن تتخذ قرارات من شأنها حماية الفئات المستهدفة من التنصير خصوصا القاصرين، وذلك بالحد من استغلال الهشاشة الاجتماعية والفقر والحرمان بقطع الطريق أمام المنظمات التنصيرية... لكن هي إجراءات تحد من تغلغل الظاهرة في بعض البؤر لا غير، فمن الناحية العملية أصبح من الصعب على الدول المغاربية، خصوصا بعدما عرفت وسائل الاتصال الثورة المعلوماتية الحديثة، أن تمنع التنصير أو توقفه... ولذلك فالدول المغربية غالبا ما تكتفي بحل جزئي وآني تجنبا للإحراج مع المنظمات الدولية والحقوقية أن تفعل مقتضياتها القانونية المسطرة، أو تعمد إلى وضع قوانين تحد من أنشطة المنصرين وتخضعهم للمراقبة... ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى المتعلقة بالقانون الجنائي خاصة الفصول من 220 إلى 222 من القانون الجنائي المغربي.. في حين تعتبر تونس الدعوة لاعتناق النصرانية من الأعمال المخالفة للنظام العام التي تستوجب العقاب... بينما تستند الحكومة الجزائرية في رفضها للأعمال التنصيرية للكنائس المسيحية على قانون صدر في 28 فبراير ,,.2006 بيد أن الملاحظ في تعامل الحكومة الجزائرية مع حملات التنصير المتناسلة تأكيدها على حكم القانون، فوضعت بذلك المتنصّرين الجُدد والطوائف البروتستانتية تحت مجهر المراقبة والمتابعة القضائية، وأسفرت هذه المراقبة عن إغلاق مجموعة من الكنائس غير المرخصة... وتحت هذه المسوغات تمّ أكثر من مرة ترحيل مجموعة من المنصرين من هذه الدول المغاربية الثلاث وفي فترات مختلفة... وتمت مصادرة مختلف الوثائق والمواد التنصيرية؛ من كتب وأشرطة الفيديو والأقراص المدمجة... وفي كلمة إن مواجهة الظاهرة لا تقتصر فقط على ما يمكن أن تقدمه الدول في المجال وإن كانت مساهمتها أساسية وعليها يتوقف الأمر للحد من تأثيرها وتغللها، ولكن القضاء عليها يستعدي تضافر جهود الجميع، تبدأ من الجهات الرسمية المطالبة على الأقل تنوير الرأي العام حول الظاهرة، بأجوبة صريحة على حقيقة الأرقام التي تنشر بين الفينة والأخرى، وعن التدابير التي اتخذتها الحكومات المغاربية أو التي بصدد اتخاذها لتحصين الذات من هذه الظاهرة ومن على شاكلتها... وعليه، ينبغي أن تواجه بشكل جدي ومسؤول وبطرق عصرية حضارية من طرف العلماء والفقهاء والخطباء والوعاظ والأساتذة وكذا من الصحفيين والجمعيات والأحزاب، وغيرهم من المثقفين... ويجب أن يكون دور السياسي المسلم قويا في مثل هذه الأمور حتى يسد الباب أمام المنصرين، لأن الأمر يتجاوز بكثير مسألة أن تكون قضية شخصية أو حرية فردية، لأنها مرتبطة بالدين والدين في حياة الأمة قضية وجودية.... كيف تقيم التعاطي الرسمي إزاء ظاهرة التنصير؟ على الرغم من التحركات الرسمية التي تنهجها بعض الدول المغاربية لمراقبة الحركات التنصيرية على اراضيها، بيد أن البعض لا يتوان عن وصف موقفها من ظاهرة التنصير بالموقف التهويني الذي لا يرقى لخطورة التحدي ويوصف عدم التفاعل والاهتمام الجدي بمواجهة الظاهرة ب'' لعبة توازنات'' تسعى من خلالها هذه الدول كسب ود الدول الغربية، فتغض الطرف عن هذا وتتجاوز ذاك، لاعتبارات عدة من بينها؛ أولها أن تقارير المنظمات الحقوقية الدولية ما فتئت تتهم بعض الدول المغاربية في السنوات الأخيرة باعتقالها لشباب اعتنقوا النصرانية كما هو الشأن لمحاكمة ''حبيبة بوقدير'' في تيارتبالجزائر... ومن شأن ذلك أن يشكل نقطة سوداء في سجل هذه الدول التي لازالت الانتهاكات والخروقات المتعلقة بحقوق الإنسان لم تهجرها بعد، ويمكن التمثيل لذلك أيضا بتقرير الحرية الدينية الذي تصدره وزارة الخارجية الأمريكية... وثانيها أن هذه الدول تربطها علاقات جيدة بالفاتيكان ''المغرب وتونس على سبيل المثال''، وأي سلوك صادر في هذا الصدد سيجعلها في تعارض مع دعواتها المتكررة إلى الحوار والتسامح... وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى موافقة الحكومة التونسية على إعادة افتتاح كنيسة كاثوليكية على أرضها تحمل اسم ''القديس يوسف''، كانت قد خضعت لقرار بالإغلاق صدر عام 1964م؛ بسبب نشاطها التنصيري حينذاك، وتقع في جزيرة ''جربة'' السياحية، التي يدّعي الفاتيكان أنها ''تحمل تراثاً مسيحياً يعود إلى عصور الكنيسة الأولى''.. مقابل تعهّد الفاتيكان بزيادة تنظيم الأفواج السياحية من خلال الشركات الدولية العاملة في مجال السياحة والتابعة لاستثمارات دولة الفاتيكان! أما الثالث والأهم فهو أن الموضوع لا زال ضمن المسكوت عنه، وإثارته في الدول المغاربية من شأنه خلق تضامن دولي لأنصار هذه الحركات... وتبقى من بين المؤاخذات الكبرى التي عادة ما توجه للجهات الرسمية في الدول المغاربية في تعاطيها مع ظاهرة التنصير ما يمكن اختزالها في النقاط الآتية: أن الدول المغاربية لم تفعل بالشكل الكافي المقاربة الدينية بالشكل الكافي، واعتمادها أساسا على مقاربة أمنية يغلب عليها الموسمية والارتجال، إضافة إلى عدم إشراك المجتمع المدني كأحد الفاعلين الأساسيين في مواجهة التنصير وبشكل خاص، العلماء والدعاة لاسيما في المناطق التي تعرف مستويات عالية من الهشاشة. كما أن هذه الدول سايرت الحملة العالمية على العمل الخيري الإحساني، وتحولت من سياسة القضاء على مصادر تمويل الإرهاب إلى تجفيف منابع العمل الخيري الإحساني، وتجعل الدول المغاربية تفقد ضمن استراتيجية المواجهة، عنصرا أساسيا من مكونات المجتمع المدني يمكن أن يضطلع بدور مهم في الرعاية الاجتماعية. بالإضافة إلى عدم إيلاء الدول المغاربية أهمية كبيرة للتربية الإسلامية ودروها في تحصين المجتمع من الاختراقات العقدية التي تهدد أمنه الروحي... وعليه فالرسالة التي يجب أن تعيها وتفهمها الجهات الرسمية في الدول المغاربية أن التنصير لم يعد يريد تحويل الناس من دينهم إلى النصرانية فقط وإنما أصبح يتوخى إيجاد مجموعة بشرية تدفع إلى إحداث التوتر الاجتماعي.