بعد سقوط نظام بنعلي وصدور العفو العام وعودة بعض المنفيين، انطلقت تصريحات لشخصيات تنتمي إلى التيار الاستئصالي، أبدت تخوفها من عودة راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة إلى بلاده من منفاه، بل وذهب البعض إلى حد تشبيه عودة الغنوشي بعودة الخميني عقب ثورة إيران. ولأن راشد الغنوشي كان الغائب الحاضر في كل النقاشات المرتبطة بمستقبل تونس السياسي، حاولنا الاتصال به منذ اندلاع الانتفاضة، لكن الأمر كان يتعذر لاعتبارات مرتبطة بالشيخ. وحين تمكنا من ربط الاتصال به وترتيب عملية الحوار، أخبرنا علي بنعرفة رئيس الحملة الدولية لحقوق الإنسان بتونس، أن راشد الغنوشي حصل لتوه على جواز سفره التونسي ومن ثم فترتيبات العودة إلى تونس قد تؤجل الحوار . صراحة أمام هذا التعارض بين حاجة الصحافة إلى الخبر، وحاجة المنفي إلى ترتيب هادئ لظروف عودته، علما أنه قرر العودة إلى تونس يوم الأحد بعد نفي جاوز العشرين عاما، غلَّبنا الحاجة إلى الخبر وربما رغبة في مقاسمة القارئ المغربي لحظات نفسية صعبة يعيشها رجل سياسة وفكر سمع عنه وسمع له خصوصا مع أحداث تونس الأخيرة، انتزعنا وعدا من مكتب راشد الغنوشي بلندن، بأن يكون آخر حوار له في المنفى يجريه مع جريدة التجديد وقرائها. ورغم الضغوط النفسية والاجتماعية والسياسية، للشيخ الغنوشي في آخر أيام الغربة والمنفى وظروف الاستعدادات لمعانقة بلاده التي تركها مكرها أبى إلا أن ينزع من وقته ما يمنح فيه ل التجديد آخر حوار له في المنفى . قال في البدء إن مستقبل تونس سيكون ديمقراطيا ومنفتحا على جميع المكونات، وتحدث عن الشعب وعن الثورة، وعن المعارضة والحركة الإسلامية وعن الجيش والتدخل الأجنبي، وعن المغرب العربي . أجرى الحوار: عبد الصمد بنعباد السيد راشد الغنوشي كيف تقرأون الحدث التونسي الأخير؟ الثورة المباركة في تونس تبشر بكل خير على مستوى مستقبل البلاد، الذي لن يعود بحول الله إلى الوراء، وهو منفتح على مستقبل ديمقراطي يستوعب جميع مكونات الساحة السياسة التونسية والاجتماعية والثقافية، كما أن للثورة تأثير في المنطقة والعالم من حيث الأمل في التغيير، وذلك ما لم تبادر الأنظمة القمعية إلى مراجعة سياساتها باتجاه الاعتراف بإرادة شعوبها في التحرر و الإنعتاق. كيف تقيمون أداء مؤسسات الدولة وتعاطيها مع الانتفاضة ؟ لم تكن هناك مؤسسات في عهد الدكتاتورية، وإنما هناك نظام أمني تسلطي على قمته دكتاتور وحوله عصابة مافيا، يأمر فيُطَاعُ. و بمجرد أن أعلنت مؤسسة الجيش رفضها تنفيذ أمر الرئيس المخلوع بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، التي تصرفت باعتبارها مؤسسة وظيفتها حماية الدولة والوطن، وليس حماية عصابة مافيا ثارت عليها الجماهير، تهاوى بنيان العنكبوت، وفر رئيس العصابة، وأفرادها هاربون، وتولت مؤسسة الجيش حفظ الأمن في البلاد. وهل كانت مؤسسة الجيش على الحياد من انتفاضة الحرية ؟ نعم، ولذلك حياها الشعب وأحبها، مع أن لا أحد يتمنى لها أن تتورط في الشأن السياسي اليومي، فتجربة العرب مع الأنظمة العسكرية مريرة، وحطت من شأن هذه المؤسسة الهامة. كيف كان تقييمكم لأداء الجمعيات والمنظمات السياسية والنقابية والحقوقية والمدنية، إزاء تطورات الحدث التونسي قبل وبعد فرار بنعلي ؟ لقد انطلقت شرارة الثورة عفوية من سيدي بوزيد، أطلقها الشباب وبخاصة أصحاب الشهادات العاطلين عن العمل، وما لبثت أن تفاعلت معها بقية الجهات والقطاعات وفي مقدمتها قطاع المحامين والنقابيين، وكان للأحزاب السياسية دور فاعل في دعم تحركات الشارع، وإن نأت بنفسها عن تأطيرالتحركات لحسابات سياسية لعل أهمها، تفويت الفرصة على النظام في سحق هذه الثورة الاجتماعية أساسا برفع فزاعة التوظيف السياسي أو خطر الأصوليين. ما هي قراءتكم لزيارة جيفري فيلتمان المكلف بملف الشرق الأوسط في الخارجية الأمريكية إلى تونس علما، أن أول تصريح رسمي أمريكي، أدلى به أوباما عشية فرار بنعلي؟ من حيث الأصل نحن نرفض أي تدخل خارجي في شؤون بلادنا الداخلية، وزيارة فيلتمان تَتَنَزَّلُ ضمن المساعي الأمريكية لضمان مصالحها في المرحلة المقبلة، ونحسب أن المصالح الإستراتيجية لا يمكن ضمانها مع الدكتاتورية، وإنما مع الممثلين الشرعيين للشعب الذين بإمكانهم بناء علاقة سوية مع القوى الغربية، قوامها الاحترام المتبادل والتعاون وتبادل المصالح بعيدا عن الهيمنة والوصاية ونهب ثروات الشعوب وخيراتها. تونس كانت بتعبير البعض ملحقة بالسفارة الفرنسية، هل ستتراجع فرنسا عن محميتها لصالح الديمقراطية ؟ فرنسا تعتبر أن المغرب العربي هو منطقة نفوذها الرئيسية، ولقد استمرت في دعم الرئيس المخلوع الى أن فوجئت به في أجوائها طريدا، يبحث عن مأوى فلفظته بعد أن انتهت صلاحيته، وسيكون من الغباء إعادة التجربة، والاعتماد على دكتاتوريين لا يستطيعون حماية عروشهم أمام غضبة الشعوب، فضلا عن مصالح أسيادهم، وبالتالي على العقلاء إقامة علاقات تعاون مع ممثلين شرعين للشعب قوامها الاحترام وتبادل المصالح بعيدا عن الوصاية والهيمنة. تونس بنعلي كانت تلميذا نجيبا للمؤسسات الدولية، تصوركم لمستقبل تونس الاقتصادي والسياسي؟ هل ستعيش تونس استمرارا أم قطيعة ؟ على المستوى السياسي، ستكون هناك قطيعة تامة مع سياسة الاحتكار للسلطة والطغيان وهيمنة الحزب الواحد والفرد، باتجاه التأسيس للجمهورية الثانية، جمهورية الديمقراطية والنظام البرلماني والقضاء المستقل والاعلام الحر. أما على المستوى الاقتصادي فلا شك أن هناك مراجعات ستتم في ضوء النتائج الكارثية للسياسات الاقتصادية للنظام السابق، في اتجاه الحفاظ على الممتلكات العامة الأساسية للدولة والتوزيع العادل للثروة بين الفئات والجهات والمزيد من الشفافية و مقاومة الفساد والرشوة والمحسوبية. في تقديركم، هل ستكون تونس نموذجا للحرية والديمقراطية والشراكة والاستقرار الاقتصادي في المنطقة ؟ نأمل ذلك. كنتم تنسقون كمعارضة بالخارج، هل هذا التنسيق مستمر في هذه المرحلة ؟ وما هي تجلياته ؟ هناك تشاور مع أصدقائنا في المعارضة، والجهود ماضية في تدعيم مسار الحوار والتشاور بين جميع مكونات الساحة السياسية، من أجل تحقيق الوفاق حول مستقبل البلاد، بإقامة حكومة إنقاذ وطني يشارك فيها الجميع، عدى الحزب المنحل حزب التجمع الدستوري الذي قامت عليه الثورة. بعد صدور العفو العام، هل بدأتم في إحياء حركة النهضة ؟ حركة النهضة حية برجالاتها الذين خرجوا من السجون على دفعات دون أن تلين لهم قناة في مواجهة الاستبداد، وكذلك مئات المهجرين الذين حافظوا على الأمانة في نقائها الاسلامي الديمقراطي المعتدل، وقد أعلنا عن أمين عام للحركة هو المهندس حمادي الجبالي، الذي يقود التشاور والحوار مع جميع الفرقاء السياسيين باسم الحركة. حركة تجديد الكيان المنظم للنهضة بدأ قبل سنوات، وسيتعزز ببركات الحرية التي جاءت بها الثورة المباركة. تُتَّهمون من طرف البعض بأنكم تحملون مشروعا انقلابيا، هل هذا دليل أزمة تواصل بينكم كمعارضة، أم جزء من الصراع السياسي ؟ الذين يقولون هذا الكلام هم بقايا النظام السابق، وبعضهم استئصاليون تحالفوا مع الطاغية المخلوع. ومع سقوطه يجب أن تسقط مثل هذه المقولات التي لا معنى لها سوى التهريج السياسي، في حين أن البلاد في حاجة إلى الجدية وروح المسؤولية. هناك دعوات بعدم السماح لراشد الغنوشي بالعودة إلى تونس، كيف تقرأونها ؟ استلمت جواز سفري وسأعود الأحد القادم إن شاء الله. ستحط الطائرة التي سأعود فيها بمطار تونسقرطاج ظهر الأحد بإذن الله بعد 22سنة من التغريب. هناك مؤشرات على الإقبال الكثيف للشعب التونسي على الدين، هل هناك مستقبل للعمل الدعوي داخل المجتمع التونسي ؟ بالتأكيد فسياسة تجفيف المنابع استهدفت التدين والبلاد في حاجة الى جهد دعوي يرشد الصحوة باتجاه الوسطية والاعتدال. أي نصيحة تقدمون لمن كانوا يروجون لاستنساخ النموذج التونسي في بلدان أخرى ؟ ليس هناك من عاقل يرغب في استنساخ تجربة فاشلة خلفت كل هذه الآلام والدموع للشعب، الإخوة في المشرق يقولون '' مَنْ يْجَرَّبْ المْجَرَّبْ عَقْلُه مُخَرَّبْ''، ونحن لا نتمنى أن يكون من عقله مخرّب إلى هذه الدرجة، وإن كان فمآله لا محالة الفشل، فسنن الخالق في الكون لا تتبدل، ولم تستهدف شخص الطاغية في تونس، وإنما هي قانون يسري على الجميع، فهنيئا لمن اعتبر '' إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار''. رسالتكم إلى الحركة الإسلامية في المغرب ؟ الحركة الاسلامية في المغرب تزخر بالكثير من القيادات التي طبعت نهج الحركة الاسلامية المغربية بطابع الاعتدال والوسطية والالتصاق بقضايا الجماهير والتعبير عن آلامهم. وفي الختام، هذا طلب لراشد الغنوشي الإنسان ماهي أحاسيسه بعد زوال بنعلي وإحياء أمل العودة إلى الوطن من المنفى، إجابة متحررة من قيود السياسة والفكر. أنا سعيد بالعودة الى الوطن و بسقوط الدكتاتور والأمل أن تتبعه الدكتاتورية، وينعم شعب تونس بنظام ديمقراطي يستوعب في عدل وسماحة كل أبنائه وبناته على اختلاف توجهاتهم بما يؤهل تونس لتقدم نموذجا هاديا ممتن لدماء الشهداء التي فتحت طريق عودتي إلى الوطن الحبيب.