عندما أكد وزير الشؤون الخارجية والتعاون الطيب الفاسي الفهري في الدورة الخامسة والعشرين للمؤتمر الوزاري للفرنكفونية عزم المغرب الدفاع عن قيم الفرنكفونية باعتباره '' بلدا عربيا ومسلما، نتقاسم قيم احترام الآخر، والتنوع الثقافي، والتعاون جنوب-جنوب والاستثمار في الإنسان''. كان السؤال المضمر هو: هل فعلا هذه هي قيم الفرنكفونية التي تنادى بها الركبان شرقا وغربا؟ بل هل هناك أصلا قيم فرنكفونية يمكننا الحديث عنها؟ لم يتأخر الجواب طويلا. فقد وجهت الدولة الفرنسية إجابات صريحة للمتشككين في قيمها. إذ صوبت سياستها العدوانية ضد الشعوب العربية والإسلامية سواء من خلال قوانين الهجرة التي عارضها حتى أقرب المقربين من حزب فرنسا فكتب الطاهر بنجلون مقالا تحت عنوان دال:''أمي لن تأتي إلى فرنسا''، أو في الهجوم المستفز على رموز الإسلام والدفاع عن السياسات الاستعمارية القديمة تحت عنوان حماية المسيحيين كما حدث مؤخرا مع أقباط مصر، وفي الأخير من خلال طريقة التعامل مع الرئيس التونسي الهارب والصديق الحميم سابقا. هذه الأجوبة، وغيرها كثير، تثبت الجوهر الحقيقي للقيم الفرنكفونية التي لا تمل الآلة الدعائية الفرنسية ومن يدور في فلكها من تكرارها وترديدها في كل المحافل والجهات، حتى غدت فرنكفانية .... عند المتهكمين على التناقض الصارخ بين المبادئ المعلنة وحقيقة الممارسة . فقال أحدهم بلغة احتجاجية :''الفرنكفونية كما تفرض علينا نحن الأفارقة ينبغي أن تدفعنا إلى الحديث عن فرنكفانية لأن الأمر يتعلق بإيديولوجيا استعمارية وإجرامية تطمح إلى الحفاظ علينا في دولة الاستعباد .....الفرنكفانية هي فاشية ولاديمقراطية وعنصرية''. بهذه العبارات يلخص الأستاذ أبيدو أما ءِجلُ- ءٍفومعاناة الشعوب المتخلفة مع الفرنكفونية. قد لا نحتاج إلى التذكير بأن هناك فرقا عميقا بين ''الفرنكفانية'' كأداة استيلاب ثقافي وإيديولوجي والفرنسية كلغة شعب معين يمكن الاستفادة من تعلمها كما يستفاد من كل اللغات الطبيعية. لكن في الحالة المغربية والإفريقية عموما تغدو للقضية صورة أخرى. فمنذ استعماله ضمن أدبيات الجغرافيا الاستعمارية بغية تحديد الفضاءات الجغرافية التي كانت تتحدث اللغة الفرنسية من طرف الجغرافي الفرنسي أونزيم ريكلوس في كتابه (فرنسا والجزائر والمستعمرات)، أخذ المصطلح مجموعة من الدلالات التي تشترك في الإعلاء من شأن الفرنسية باعتبارها لغة وثقافة وحضارة تنوير وأنوار، وأداة تواصل مع عالم الحرية والمساواة، حتى اعتبرها سنغور:''تشع من ألف نار مثل شهب تضيء ليل إفريقيا''. لكن في إطار الصراع الحضاري اتخذت الفرنكفونية مظاهر عديدة لم تتوقف عند حدود الثقافة وتوصيل المعرفة بل أصبحت أداة لهيمنة اقتصادية وسياسية، وهو ما عبر عنه فرانسوا ميتران بالقول:''إن الفرنكفونية ليست هي اللغة الفرنسية فحسب...إذا لم نتوصل إلى الاقتناع بأن الانتماء إلى العالم الفرنكفوني سياسيا واقتصاديا وثقافيا يمثل لإضافة فإننا لسنوات قد فشلنا في العمل الذي بدأناه منذ عدة سنوات''. وهذا الاعتراف وإن جاء متأخرا يثبت أن ما يزعمه دعاة الفرنكفونية الفرنسيون والأفارقة من كونها أداة تنوير حضاري، أو حتى غنيمة حرب كما توهم كاتب ياسين أو مكسبا ثقافيا هاما كما رأى مرزاق بقطاش، ليس لها ما يثبتها واقعيا بل هي أداة للاستعمار الاقتصادي والسياسي يتوسل إليهما باللغة والثقافة. وبتعبير جون كالفي عالم السوسيولوجيا اللسانية: ''إن الإمبريالية الأمريكية تتوصل إلى نشر لغتها عن طريق فرض هيمنتها السياسية والاقتصادية، وأما فرنسا فهي على عكس ذلك تنشر لغتها وثقافتها لتصل عن طريقها إلى فرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية، فاللغة هنا في مركز القيادة، وأما السياسة والاقتصاد فتابعان، ونتيجة لا وسيلة''1. والمتابع للأنشطة الفرنكفونية بالمغرب على وجه الخصوص سيجد نفسه أمام حالة هستيرية من الهجوم الثقافي والسياسي والاقتصادي تكريسا للتبعية الفكرية والثقافية والحضارية لفرنسا. فكما تناسلت المنظمات المنتمية للجوقة الفرنسية منذ أول تجمع فرانكفوني عام 1969م في مدينة ''نيامي'' (عاصمة النيجر) على يد مجموعة من القيادات الأفريقية التي نادت بضرورة إقامة منظمة دولية تجمع بين الدول التي تشترك في اللغة والثقافة الفرنسيتين، وعلى رأسها الرئيس السنغالي ''ليوبولد سنجور''، والرئيس التونسي ''بورقيبة''، والنيجيري ''حماني ديبوري''، بدأت تتناسل الأنشطة في الدول المختلفة وعلى رأسها المغرب. فلو تأملنا ما تعرضه على سبيل المثال الوكالة الجامعية للفرانكفونية سنجد حرصا على توزيع الاهتمام على مجالات تجمع بين ما هو أكاديمي وما هو ثقافي وما هو رياضي . مما يجعلنا نؤكد أن الأمر هو أكثر من مجرد دفاع عن لغة، بل يحمل في ذاته منظومة من القيم الحضارية لعل أهم تجلياتها الهجوم المستمر على اللغات والثقافات الوطنية. فإذا كان البعض يزعم بأن ''الفرنسية لغة تشكل ضمانة للحوار والتنوع الثقافي وخلق التنوع والارتقاء بالتنمية التضامنية''، فإن الحالة المغاربية تثبت هجوما قديما/جديدا على العربية لغة الهوية والانتماء ابتدأت منذ ما قبل قولة المستشرق مارسي الشهيرة:''إن اللغة العربية لغة المحكومين لابد وأن تختفي باختفاء مثلها القروسطي، فتترك المجال للغة الحاكمين أي الفرنسية الأكثر وضوحا ونجاعة..''2. وتجليات الخطاب الفرنكفاني حول اللغة هي العنصرية والاحتقار والتوجه نحو تبرير الافتراس اللغوي. ففي الوقت الذي تطالب فيه الأصوات الفرنكفونية بحماية لغتها في وجه الطوفان الإنجليزي القادم من وراء الأطلنطي وتدافع عن العدالة في السوق اللغوية، تمتنع عن إعطاء هذا الحق للغات الوطنية والعربية على رأسها . ولا يتوقف الخطاب ''الفرانكفاني'' عند حدود المسألة اللغوية، بل يصل به الأمر إلى تقديم بديل للقيم المجتمعية الموجودة باسم الحرية والديمقراطية ومنظومة الحقوق. فلا تتردد الأصوات الفرنكفونية المختلفة في التعبير خلال الأنشطة المنظمة عن رؤيتها الاجتماعية والخلقية المختلفة. والمثال الحاضر أمامنا هو النقاش الذي دار خلال المؤتمر الفرنكفوني الخامس لمحاربة السيدا الذي تحول إلى مرافعة للدفاع عن حقوق الشواذ باعتبار أن الإصابة بالسيدا في صفوف الشواذ يعود إلى التجريم القانوني وموقف الثقافة الدينية منه، بل طالب بعض المتدخلين بالتطبيع الكامل مع الشواذ. وهو ما تكرر حتى عند بعض المغاربة. ونماذج ذلك كثيرة: فنيا ودينيا وثقافيا. لقد أثبتت الفرانكفونية خلال مسارها الاستعماري بمنطقها الصراعي المرتكز على الهجوم على كل مكونات الذات المغربية وانتمائها الحضاري أن اللغة الفرنسية ليست إلا المدخل التي تلج من خلاله لتغيير منظومة القيم المؤسسة. لذا اتخذت بعض الأصوات المنتمية محليا للفرنكفونية صوت الدفاع عن اللهجات المحلية مادامت تشكل دورا في حرب الهوية ضد العربية. ففي الوقت الذي يبشرنا القادة الفرنسيون أن ''من ينغلق داخل لغته المحلية ينغلق في فقره'' كما قال ميتران، ويحارب القادة الفرنكفونيون الأفارقة لهجاتهم المحلية القاصرة كالولوف واللينكالا والسواحلي...، نجد عند دراريهم من المغاربة حديثا مخالفا ينبني على الحديث عن الدارجة باعتبارها لغة مغربية ، مادام الهدف هو حرب على العربية. يخطئ من يتصور أن ''الفرنكفانية'' هي أداة موجهة نحو تحرير العقل المغربي، أو توصيل المعرفة باسم لغة موليي وهوجو ، إن الفرنكفانية هي آلة هدم لمجتمع وقيمه وبتعبير الطاهر بنجلون وهو يتحسر على خدماته الجليلة لها:'' لعله من الأفضل أن نقول الأشياء على نحو كلبيفًّمك كٌَّىٍَّم ، فنؤكد أن هذه الحكاية(الفرنكفونية) ليست سوى أداة أو لعبة سياسية تضمن لفرنسا مصالحها الاقتصادية التي لا يستهان بها قياسا إلى منطقة نفوذ مهمة''3. ومن يشكك في ذلك فأمامه التجربة التونسية حيث يباع الخدم بمجرد انتهاء الحاجة إليهم . إنها قيم الفرنكفانية. (1)-حرب اللغات: جون كالفي ص: 270262. 2 الفرنكفونية ومأساة أدبنا الفرنسي : بنسالم حميش: ص39 3 لوموند 8 فبراير 1997