اتفق جمهور العلماء على أن الحدث الأصغر يمنع من مس المصحف، جاء في الموطأ في كتاب القرآن، باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن: عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:'' أن لا يمس القرآن إلا طاهر'' (...) قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية { لا يمسه إلا المطهرون } إنما هي بمنزلة هذه الآية التي في ''عبس وتولى'' قول الله تبارك وتعالى: { كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة } وفيه إشارة إلى أن معتمد مالك بالأساس في منع مس المصحف هو الأثر الوارد في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعمرو بن حزم، والآية عنده وإن كانت واردة في حق الملائكة إلا أنه يستأنس بها في ترجيح ما في الخبر، فكما لا يمس القرآن في الملإ الأعلى إلا المطهرون كذلك ينبغي أن يكون في دنيا الناس. قال ابن عبد البر في الاستذكار(2/471) تعليقا على حديث مالك:''وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل، وأجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا الطاهر، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وأبي عبيد وهؤلاء أئمة الرأي والحديث في أعصارهم ، وروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وطاوس والحسن والشعبي والقاسم بن محمد وعطاء وهؤلاء من أئمة التابعين بالمدينة ومكة واليمن والكوفة والبصرة، قال إسحاق بن راهويه: لا يقرأ أحد في المصحف إلا وهو متوضئ، وليس ذلك لقول الله عز و جل ( لا يمسه إلا المطهرون ) ولكن لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يمس القرآن إلا طاهر، وهذا كقول مالك ومعنى ما في الموطأ '' ومذهب سعد بن أبي وقاص الذي أشار إليه ابن عبد البر وارد في الموطأ، فعن مالك عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص، فاحتككت فقال سعد لعلك مسست ذكرك؟ قال: فقلت: نعم، فقال: قم فتوضأ. فقمت فتوضأت ثم رجعت'' فأمر سعد لمصعب بالوضوء يقتضي أنه يرى أن لا يمس المصحف إلا طاهر. وقال الباجي في المنتقى في تعليقه على حديث الموطأ الذي بدأنا به حديثنا:'' والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك، قوله تعالى: ''لا يمسه إلا المطهرون'' وهذا نهي، وإن كان لفظه لفظ الخبر، فمعناه الأمر. لأن خبر الباري تعالى لا يكون بخلاف مخبره، ونحن نشاهد من يمسه غير طاهر. ودليلنا من جهة السنة: الحديث المذكور: أن لا يمس القرآن إلا طاهر، ودليلنا من جهة المعنى: أن هذا ممنوع من الصلاة لمعنى فيه، فكان ممنوعا من مس المصحف كالمشرك أو كالذي غمرت جسده النجاسة . ''وعند الترمذي بسنده وصححه الألباني عن علي قال:'' كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا'' قال الترمذي: حديث علي هذا حديث حسن صحيح، وبه قال غير واحد من أهل العلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين. قالوا: يقرأ الرجل القرآن على غير وضوء ولا يقرأ في المصحف إلا وهو طاهر، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحق'' وقال السيوطي في إتقان علوم القرآن(1/434):''مذهبنا ومذهب جمهور العلماء تحريم مس المصحف للمحدث سواء كان أصغر أم أكبر، لقوله تعالى:'' لا يمسه إلا المطهرون'' وحديث الترمذي وغيره ''لا يمس القرآن إلا طاهر''. هذا وتجدر الإشارة إلى التمييز بين منع المحدث من مس المصحف، وبين جواز قراءة القرآن من غير وضوء، ولهذا أدرج مالك في الموطأ في نفس كتاب القرآن ما سماه: باب الرخصة في قراءة القرآن على غير وضوء،عن محمد بن سيرين أن عمر بن الخطاب كان في قوم وهم يقرؤون القرآن، فذهب لحاجته ثم رجع وهو يقرأ القرآن، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتقرأ القرآن ولست على ضوء؟ فقال له عمر: من أفتاك بهذا، أمسيلمة؟'' وعليه يجوز قراءة القرآن من شاشة حاسوب أو هاتف أو نحوهما ومس ذلك وحمله، إذ ليست هذه الأشياء مصحفا ولا تسمى بذلك، كما يمكن مس أشرطة القرآن وأقراصها أو أي جهاز يعرض فيه القرآن الكريم أو يسمع منه، مع استصحاب أن الوضوء والطهارة من أكمل حالات التعامل مع كتاب الله تعالى وخصوصا عند التعبد وابتغاء الأجر والثواب. وأما حالات الحاجة والضرورات فلها استثناءاتها ورخصها التي تقدر بقدرها، يقول صاحب الفقه المالكي وأدلته(97/1) نقلا عن البيان والتحصيل لابن رشد الجد والمنتقى للباجي والمعيار للونشريسي:'' ويجوز للمعلم أو المتعلم حمله ومسه، لما يلحقهما من الوضوء لذلك من المشقة كلما أحدثا، وقد يكون ذلك في الأوقات التي يثقل فيها مس الماء، فيكون ذلك سببا في المنع من تعلمه''ومن كان في حكمهما أخذ حكمها.