كانت مدينة إشبيلية في غرب الأندلس عاصمة بني عباد من ملوك الطوائف الذين تقاسموا ولايات البلاد التي كانت تحت الخلافة الأموية أيام ازدهارها أواخر المائة الهجرية الرابعة، فورثت مملكة إشبيلية مجدا علميا وحضاريا باذخا تمثل في استقطاب خيرة القراء والفقهاء والأدباء والكتّاب إليها، مما أمست به زاخرة الثقافة، بعيدة الصيت في سائر العلوم، ولا سيما علم القراءات. ولقد مثّل إمامُ القراءات بها أبو عبد الله محمد بن شريح الرعيني إحدى أهم القمم الباذخة في هذا الشأن ممن ضربوا المثل الأعلى في علو الهمة في طلب الرسوخ في علم القراءات وأبعدوا النُّجعة في آفاق الشرق والغرب في طلب المشيخة وغرائب الروايات. ولد ابن شريح سنة 388 ه، ونشأ بإشبيلية، وأفاد من هذه الحركة العلمية الباسقة التي احتضنت زهرتها هذه المملكة، ثم ترقت به الحال في مراقي التألق والشفوف على الأقران حتى صار مقرئ مملكة بني عباد وإمام حضرتها المختار الذي كان ينتدب لصلاة القيام رسميا في تراويح رمضان، كما أنه نصب رسميا لمشيخة الجماعة في ميدان الإقراء دون مزاحم بعد أن عاد من رحلة الطلب مليء الحوصلة من القراءات وعلوم الروايات، وافر الحظ من المشاركة في سائر العلوم والفنون. رحل ابن شريح رحلته الأولى في بعض جهات الأندلس فقرأ على عدد من المشايخ وأجاز له بالقراءات وغيرها الأكابر، ومنهم مكي بن أبي طالب القيسي نزيل قرطبة (ت 437 ه). ثم رحل إلى المشرق سنة 433 ه فتوقف بمصر للأخذ عن قرائها، فقرأ على أبي العباس أحمد بن نفيس بمصر، وقرأ بالحرم المكي على أحمد بن محمد القنطري المقرئ، وعلى تاج الأئمة أحمد بن علي، وعلى الحسن بن محمد البغدادي، وسمع الحديث من أبي ذر عبد بن أحمد الهروي، كما أخذ عن عثمان بن أحمد القسطالي. قال ابن الجزري في طبقات القراء: "ورجع بعلم كثير فولي خطابة إشبيلية بلده تلا بالقرءات الثمان عليه ابنه أبو الحسن شريح وعيسى بن حزم، مات في شوال سنة 476 ه". وتبرز مكانة ابن شريح في علو همته في طلب القراءات، وما جلبه إلى الأندلس من الروايات وغرائب المصنفات، وما ألفه من الكتب الأمهات. وأكتفي لضيق المقام بذكر أسماء الكتب والروايات التي أدخلها والتي ضمّنها بعض مؤلفاته مما ذكره العلامة أبو بكر بن خير اللمتوني الإشبيلي في فهرسة ما رواه عن شيوخه، ومنها: 1 كتاب قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وما حُفظ من ألفاظه واستعاذاته وافتتاحه، تأليف أبي بكر محمد بن مجاهد المقرئ، رواه عنه ابنه شريح بن محمد بن شريح، قال: سمعته على أبي العباس أحمد بن سعيد بن أحمد بن نفيس المقرئ سنة 434 ه. 2 كتاب القراءات لأبي عبيد القاسم بن سلام، رواه عنه ابنه شريح قال: حدثني به أبي رحمه الله سماعا عليه قال: سمعته على أبي جعفر أحمد بن محمد النحوي في ربيع الأول سنة 434 ه. 3 كتاب اختلاف القراءات وتصريف وجوهها تأليف أبي بكر بن مجاهد البغدادي، حدث به ابنه شريح قال: حدثني به أبي سماعا من لفظه، قال: سمعته على أبي العباس أحمد بن سعيد بن نفيس المقرئ سنة 434 ه بمصر. 4 كتاب الهادي في القراءات تأليف أبي عبد الله محمد بن سفيان المقرئ القيرواني، قال أبو الحسن شريح: حدثني به أبي سماعا من لفظه، قال: سمعته على أبي حفص عمر بن حسين المقرئ المعروف بابن النفوسي بالمهدية في مسجده برحبة القمح في ذي القعدة 433 ه قال: أخبرنا مؤلفه. 5 الكتاب الجامع لقراءات الأئمة رضي الله عنهم، تأليف أبي القاسم عبد الجبار بن أحمد الطرسوسي المقرئ. قال أبو الحسن شريح: حدثني به أبي سماعا عليه قال: سمعته على أبي جعفر أحمد بن محمد النحوي في جمادى الأولى من سنة 434 ه أخبرنا به عن مؤلفه أبي القاسم الطرسوسي. 6 كتاب الإرشاد في معرفة مذاهب القراء السبعة وشرح أصولهم تأليف أبي الطيب عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون الحلبي رحمه الله. قال أبو الحسن شريح بن محمد: حدثني به أبي رحمه الله سماعا من لفظه قال: سمعته على أبي العباس أحمد بن علي بن هاشم المقرئ بحجرته بزقاق مهدة من فسطاط مصر سنة 433 ه قال: أخبرنا مؤلفه. 7 كتاب التمهيد في القراءات تأليف أبي علي الحسن بن محمد البغدادي المالكي، قال أبو الحسن شريح: حدثني به أبي رحمه الله سماعا من لفظه قال: سمعته على مؤلفه أبي علي المذكور في مسجد سوق بربر بفسطاط مصر سنة 433 ه. 8 كتاب الاختصار في القراءات تأليف أبي الحسن أحمد بن محمد القنطري المقرئ رحمه الله، قال أبو الحسن شريح بن محمد: حدثني به أبي رحمه الله سماعا عليه قال: سمعته على أبي الحسن مؤلفه المذكور في المسجد الحرام في ذي القعدة من سنة 433 ه. 9 كتاب التذكرة في القراءات تأليف أبي الحسن طاهر بن أبي الطيب بن عبيد الله بن غلبون الحلبي رحمه الله، قال أبو الحسن شريح: حدثني به أبي رحمه الله سماعا عليه قال: سمعته على أبي جعفر أحمد بن محمد النحوي سنة 434 ه أخبرنا به عن مؤلفه. 10 كتاب إكمال الفائدة في القراءات السبع تأليف أبي الطيب بن غلبون المقرئ، قال أبو الحسن شريح: حدثني به أبي رحمه الله سماعا من لفظه قال: سمعته على أبي العباس أحمد بن علي بن هاشم المقرئ بحجرته بزقاق مهدة من فسطاط مصر سنة 433 ه أخبرنا به عن مؤلفه أبي الطيب بن غلبون رحمه الله. 11 كتاب القراءات السبع عن الأئمة السبعة رضي الله عنهم تأليف أبي أحمد عبد الله بن الحسين بن حسنون السامري المقرئ رحمه الله. قال شريح بن محمد: حدثني به أبي رضي الله عنه سماعا عليه قال: سمعته على أبي العباس أحمد بن سعيد بن نفيس المقرئ سنة 433 ه أخبرنا به عن مؤلفه أبي أحمد السامري رحمه الله. 12 كتاب الكافي في القراءات السبع عن القراء السبعة المشهورين رحمهم الله تأليف الشيخ الحافظ أبي عبد الله محمد بن شريح الرعيني المقرئ. قال ولده شريح بن محمد: حدثني به أبي مؤلفه رحمه الله قراءة عليه، وقرأت عليه القرآن العظيم بما تضمنه سبع ختمات مفردة ومجموعة حسب عادته نفع الله بذلك برحمته. 13 كتاب التذكير في القراءات السبع أيضا تأليف أبي عبد الله محمد بن شريح المقرئ المذكور. قال أبو بكر بن خير: حدثني به شيخنا أبو الحسن شريح بن محمد المقرئ رحمه الله قراءة عليه بلفظي مرة وسماعا عليه بقراءة غيري مرة أيضا، قال: قرأته على أبي مؤلفه. 14 كتاب قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي في رواية أبي عبد الله محمد بن المتوكل اللؤلؤي الملقب ب"رُويس"، وفي رواية أبي الحسن رَوْح بن عبد المؤمن عنه أيضا تأليف أبي عبد الله محمد بن شريح المقرئ رحمه الله، قال أبو الحسن شريح بن محمد: قرأته على أبي مؤلفه رحمه الله سماعا عليه. 15 كتاب رواية الإدغام الكبير لأبي عمرو بن العلاء رضي الله عنه تأليف أبي عبد الله محمد بن شريح رحمه الله، قال ابن خير: حدثني به شيخاي الخطيب أبو الحسن شريح بن محمد المقرئ وأبو العباس أحمد بن خلف بن عيشون المقرئ رحمهما الله قراءة مني عليهما، وقرأت عليهما كليهما القرآن العظيم بمضمنها نفع الله بذلك، قالا جميعا: حدثنا بها أبو عبد الله محمد بن شريح مؤلفها رحمه الله. 16 كتاب رواية عبد الوارث بن سعيد عن أبي عمرو، ورواية شجاع بن أبي نصر عنه، ورواية الحلواني عن قالون عن نافع، ورواية إسماعيل القاضي عن قالون عن نافع، ورواية أبي أحمد الفَرَضي عن أبي نشيط عن قالون عن نافع، ورواية إسماعيل بن جعفر عن نافع، ورواية إسحاق المسيبي عنه أيضا، ورواية أبي بكر الأصبهاني عن ورش، ورواية أحمد بن صالح عنه أيضا... وروايات أخرى ذكرها وقال ابن خير: وجميع هذه الروايات، وهي اثنتان وعشرون رواية، تأليف الشيخ أبي عبد الله محمد بن شريح المقرئ رحمه الله مجموعة في سفر واحد، حدثني بجميعها شيخنا الخطيب أبو الحسن شريح بن محمد المقرئ رحمه الله قراءة عليه وأنا أسمع.. وحدثني بذلك عن أبيه مؤلفها رحمه الله قراءة منه عليه. 17 كتاب اختلاف قراء الأمصار في عدد آي القرآن تأليف أبي عبد الله محمد بن سفيان المقرئ القيرواني رحمه الله، قال أبو الحسن شريح: حدثني به أبي رحمه الله سماعا عليه من لفظه بقراءته علي، قال: سمعته على أبي حفص عمر بن حسين المقرئ المعروف بابن النفوسي بالمهدية في مسجده برحبة القمح في ذي القعدة من سنة 433 ه أخبرني به عن مؤلفه أبي عبد الله محمد بن سفيان رحمه الله. 18 كتاب المكي والمدني من القرآن واختلاف المكي والمدني في آيه تأليف أبي عبد الله محمد بن شريح المقرئ رحمه الله، قال أبو الحسن شريح: حدثني به أبي مؤلفه رحمه الله. 19 كتاب الحجة لاختلاف القراء رحمهم الله تأليف أبي علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي النحوي. قال شريح بن محمد: حدثني به أبي رحمه الله قراءة عليه وأنا أسمع قال: سمعته على أبي العباس أحمد بن نفيس المقرئ رحمه الله سنة 434 ه أخبرنا به عن أبي الحسن علي بن معقل الجهبذ عن مؤلفه أبي علي الفارسي رحمه الله. 20 كتاب اختصار كتاب الحجة لأبي علي الفارسي تأليف أبي عبد الله محمد بن شريح المقرئ، قال شريح: حدثني به أبي مؤلفه قراءة مني عليه. 21 كتاب الوقف والابتداء تأليف أبي بكر محمد بن القاسم بن الأنباري رحمه الله، رواية أبي العباس الشعيري، قال شريح: سمعته من لفظ أبي رحمه الله بقراءته علي، وذكر سنده إلى ابن الأنباري مؤلفه. 22 كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه تأليف هبة الله المفسر رواية ابن نفيس عنه. 23 كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه لأبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله. 24 كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه تأليف أبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي رحمه الله. 25 كتاب تفسير القرآن ليحيى بن سلام رحمه الله. 26 كتاب نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن على حروف المعجم تأليف أبي بكر محمد بن عُزيْز السجستاني رحمه الله. 27 كتاب غريب القرآن تأليف أبي محمد بن قتيبة رحمه الله. 28 كتاب مشكل القرآن تأليف أبي محمد بن قتيبة رحمه الله. 29 كتاب البرهان في علوم القرآن في مائة سفر ضخمة لأبي الحسن الحوفي رحمه الله. 30 كتاب أدب القارئ والمقرئ تأليف أبي بكر محمد بن علي الأذفوي المقرئ رحمه الله. وفي فهرسة ابن خير كتب أخرى في الفقه والحديث والسيرة واللغة والنحو والأدب، وكلها من روايته عن أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني الإشبيلي المقرئ عن أبيه محمد بن شريح مما ألفه أو رواه وأدخله الأندلس مما استفاده من رحلته المشرقية، وذلك مما يعطينا صورة في غاية الإثارة عن علو همته في الطلب، وعلو كعبه في التحصيل، وإمامته في مختلف العلوم، وضربه في ذلك كله بسهم وافر. والله المستعان، وعليه التكلان