بغض النظر عن إمكانية تعدد أشكال التدين، وإمكانية صوابها وصحتها، فإن التدين الصحيح هو الذي استجمع الأبعاد الثلاثة المؤثرة في علاقة الإنسان بالدين: البعد الروحي، البعد الفكري، والبعد العملي السلوكي.. من غير فصل بينها. فهذه دوائر ثلاثة يرتبط فيها الإنسان بربه، ينتقل من خلالها في منازل السير إلى الله، ويعتلي مقامات السمو الروحي، ويرتقي مدارج الكمال البشري، وبيانها فيما يلي: 1 إصلاح القلب إنه تلك العاطفة الدينية، وذلك الارتباط الروحي الوجداني بالله تعالى، إنه ذلك التدين الذي ينطلق مما اصطلح عليه العلماء بالإخلاص وتجريد القصد لله عز وجل، حتى يتجرد العبد من داعية هواه فيكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد له اضطرارا. فلا يرتبط الإنسان بالدين من أجل نفع أو مصلحة أو قضاء حاجة، ولا يرتبط به من باب الترف الفكري أو المتعة المعرفية.. أو غير ذلك، ولكن يرتبط الإنسان بالدين إيمانا منه أنه لا معبود بحق إلا الله، ولا إله يستحق أن يذل له الإنسان ويخضع إلا الله تعالى، فيعتقد ألوهيته واستحقاقه للعبادة، ويستقر ذلك في قلبه، فترى ينابيع الذلة والمحبة تسيل من بين جوانحه، ومياه التعظيم والتقديس تتفجر من قلبه الذي في جوفه.. فتظهر آثار ذلك في لذة يحسها، وحلاوة يجدها في قلبه أولا، ثم في ثمار ترخي بظلالها على خلقه وعلى سلوكه وعلى عمله كله... وهل العبادة في حقيقتها وروحها إلا ذلة ومحبة؟ ومن هنا نفهم حديث النبيصلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما... فالتدين ابتداء تعلق بالله تعالى ورسوله الكريم، وحب لهما، وتعظيم لأمرهما.. وكل مخالفة لهذه السبيل، هي في عمقها مجانبة لطريق السلامة في الارتباط بالدين، ولطريق الصحة في التدين، قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} ومن هنا نفهم ضرورة إصلاح القلب في الإخلاص لله وحبه، حتى يبقى القلب حيا، يقظا، خاشعا، سليما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ..ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ، فالصلاح والفساد مرتبطان بالقلب، والموت الحقيقي هو موت القلوب، كما قال الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت üüüü إنما الميت ميت الأحياء وموت القلب يعني توقفه عن الإحساس بوخز الذنوب والمعاصي، {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }. 2 إصلاح الفهم قطعا لا يمكن للعاطفة الدينية أن تثمر وحدها، ولا ينبغي الاقتصار عليها وحدها، ولا الوقوف عندها، صحيح أنها أصل الأصول كما بينا ولكن ما لم يتبعها عمل، ولم تتأسس بفهم، فلن تعدو أن تكون عبارة عن مهدئات ومسكنات لا تستطيع أن تحقق أي إقلاع حضاري للأمة، إن لم تنقلب موانع وعوائق في طريق أي إقلاع. إن التدين اليوم يحتاج ليترشد فهما سليما وفقها سديدا، للنص أولا، ثم للواقع محل التنزل ثانيا، وما لم يتصدر طريقَ التدين العلماءُ وأهلُ الفقه بالدين والواقع بمختلف مجالاته وتخصصاته، والذين يشكلون عقل الأمة، ويمثلون وعيها.. إذ بهم تتم قيادة الأمة، ويكون التحقق بالشهود الحضاري المطلوب شرعا، تتيه الأمة وتفقد موقعها الريادي لباقي الأمم. ولهذا كان أول ما نزل من الوحي اقرأ، وامتدح القرآن والسنة العلم وأهله في غير موضع من مثل قول تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}، وقوله سبحانه: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وفي الحديث: فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء.. وقال عليه السلام: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وقد انتبه علماء الأمة إلى أهمية العلم والفهم قبل العمل والتطبيق، فوجدنا الإمام البخاري مثلا يترجم لباب العلم بقوله: باب العلم قبل القول والعمل.. فالعلم إذن هو صمام الأمان لكل تدين سليم وصحيح، كما قال الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره: وإصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل، إذ لا يشاق العقل إلى طلب الصالحات إلا إذا كان صالحا ، ولكن ما ينبغي التنبيه على خطورته أن ينحصر التدين في دائرة العلم والفهم والمعرفة دون أن يتعداه إلى سلوك وعمل، ومن غير أن تكون له روح وحياة، وقلب حي نابض يضخ دماء الحيوية في الجسم كله. 3 إصلاح العمل يقول الإمام سفيان الثوري رحمه الله: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. وبقدر ما نبهنا على خطورة أن يقتصر التدين على الأعمال الظاهرة وينحصر في العبادات خاصة، بقدر ما ينبغي التأكيد على أن التدين الصحيح لا يقبل تجريده عن العمل والعبادة الظاهرة، فلا تكفي العاطفة الدينية الجياشة، ولا الفهم السليم السديد، بل لابد من عمل وسلوك قويم... وإن القرآن الكريم زاخر بالنصوص التي يقترن فيها الإيمان بالعمل الصالح، كما في قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة وذلك دين القيمة} فلم يفصل النص القرآني بين عمل القلب وعمل الجوارح، بين الجانب الروحي الوجداني والجانب السلوكي العملي..، فكل ذلك من العبادة لله، بل ولا تتم العبادة إلا به، ولا يكتمل مفهومها إلا باستجماعه.. ومن هنا نخلص إلى أن التدين الصحيح هو الذي تتداخل فيه العاطفة الدينية، بالفهم السليم، والعمل والسلوك القويم.. وهو ما يمكن صياغته في هذه المعادلة. والحمد لله رب العالمين.