تعتبر مشكلة البطالة من بين أخطر المشكلات التي تواجه بلادنا حاليا. وتبرز خطورة هذه المشكلة في أن تزايد عدد العاطلين عن العمل يشكل إهدارا لعنصر الموارد البشرية مع ما ينجم عن ذلك من آثار اقتصادية وخيمة. إضافة إلى أن تفاقم حالة البطالة، بين الشباب على الخصوص، يؤدي إلى نتائج اجتماعية خطيرة. كما أن البطالة تشكل سببا رئيسيا في انخفاض مستوى معيشة الغالبية العظمى من المواطنين، وسببا في تزايد أعداد من يقعون تحت خط الفقر المطلق. وقد بدأت مشكلة البطالة تتفاقم في المغرب بدءا من سنة ,1982 إذ ظل معدلها يرتفع باستمرار. وخلال هذه الفترة بدأت سياسات تدبير الأزمة عبر مبادئ سياسة التقويم الهيكلي تدخل بحدة حيز التطبيق. وهي السياسات التي تقوم على تراجع دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وتحللها تدريجيا من الالتزامات الاجتماعية التي سارت عليها السلطات العمومية منذ بداية الاستقلال: دعم السلع الأساسية والتخفيف عن كاهل الفقراء والمحرومين، والضمانات الاجتماعية، والتوسع في الخدمات العامة كالصحة والتعليم والإسكان، وتراجع دور التخطيط الاقتصادي والقطاع العام والاعتماد على آليات السوق، وإعطاء القطاع الخاص الفرصة للحلول مكان القطاع العام، والترحيب بالاستثمار الأجنبي في ضوء ما تقرر له من مزايا وضمانات وحوافز. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ تلك الفترة أصبح الاقتصاد المغربي يتسم بتفاقم اختلال التوازنات الخارجية من خلال عجز ميزان المدفوعات، واختلال التوازنات الداخلية من خلال عجز الميزانية العامة للدولة. وقد تسبب ذلك في ضغوط خارجية تمثلت في زيادة أعباء الديون، وضغوط داخلية شديدة تمثلت في ارتفاع معدل التضخم. وقد أدى كل ذلك بالسلطات العمومية إلى التوقيع على برامج التثبيت والتقويم الهيكلي مع كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. والخضوع منذ ذلك الحين لشروط قاسية أدت إلى تفاقم البطالة تفاقما شديدا. إن الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخطيرة للبطالة غنية عن التعريف، بحيث لا يمكن التهوين من شأنها والقول إنها نتيجة مؤقتة لسياسات تدبير الأزمة المعتمدة في المغرب منذ بداية عقد الثمانينات كما تحاول أن تقنعنا بذلك المؤسسات المالية الدولية، أو على اعتبار أن العالم كله يعاني من مشكلة البطالة، وأننا لا نمثل استثناء في هذا المجال. ولا وجه للشبه بين البطالة المتفاحشة في بلادنا والبطالة السائدة في البلاد الرأسمالية الصناعية، نظرا لكون البطالة في هذه الدول الأخيرة تعتبر من النوع الدوري المرتبط بالتغير الدوري في النشاط الاقتصادي، والذي يترتب عنه انتقال اليد العاملة من عمل إلى آخر. كما أن نظم إعانات البطالة والخدمات الاجتماعية التي تقدمها هذه الدولة تخفف من وطأة أزمة البطالة، أما البطالة في بلادنا فتتسم بطبيعة هيكلية مزمنة قاسية، نظرا لغياب نظم إعانات البطالة وتواضع حجم الخدمات والضمانات الاجتماعية التي تقدمها الدولة. إن التضارب في تقدير حجم أو معدل البطالة يشكل أحد الجوانب الهامة لهذه المشكلة. إذ لا يمكن التعامل مع هذه المعضلة ومواجهتها، ووضع السياسات المناسبة لها، الا إذا كانت هناك صورة حقيقية وكاملة عنها. وتفيد آخر الإحصائيات المتوفرة بأن عدد العاطلين في المدن فاق 845 ألف نسمة مع بداية الألفية الثالثة. إلا أنه يمكن التكهن برقم أكبر بكثير، وذلك في ضوء ضعف معدل النمو الاقتصادي المتواضع في المغرب خلال السنوات الأخيرة وما نجم عنه من ضعف في معدل استيعاب اليد العاملة، إضافة إلى التسريحات الناجمة عن تزايد حالات الكساد والإفلاس في عدد من مقاولات القطاع الخاص. ولا شك أن هذه الأرقام تشمل فقط البطالة المزمنة، بينما لا تشمل البطالة الموسمية، أي حالة تعطل الأشخاص الذين يعملون فقط خلال مواسم معينة. كما لا تشمل اليد العاملة المهمشة، وهم الأشخاص الذين يتقاضون أجورا تافهة لقاء مهن هامشية لا استقرار فيها، كماسحي الأحذية والخادمات بالمنازل... وقد كان من نتيجة تراجع دور الدولة في التنمية والضعف الذي دب تدريجيا في أوصال القطاع العمومي، وما نجم عن ذلك من تراجع في مستوى الاستثمار العمومي، باستثناء مشاريع البنية التحتية، أن تراجع مستوى التشغيل في قطاع الوظيفة العمومية وباقي مكونات القطاع العام، والذي لم يعد هو المجال الرئيس للتشغيل واستيعاب اليد العاملة الجديدة بالمغرب، رغم أن هذا التراجع لم يواكبه إلى حد الآن نمو مقابل في مقدرة القطاع الخاص للحلول مكان الدور القيادي الذي كانت تقوم به الدولة. فقد انطلق تحول الدور النسبي للدولة في مجال التشغيل مع بداية عقد الثمانينات، حيث كانت هناك عدة عوامل تضغط على الانفاق العمومي وتحد من قدرته على استيعاب أعداد متزايدة من الأيدي العاملة، وكان في مقدمة هذه العوامل ضرورات الحفاظ على وحدة المغرب الترابية، إضافة إلى انعكاسات تدهور الأوضاع الاقتصادية على المستويين الداخلي والخارجي. يظهر من خلال ما سبق أن المؤسسات المالية الدولية التي تقود استراتيجية تدبير أزمة الرأسمالية العالمية، لا تعنيها مسألة مكافحة البطالة ولا زيادة معدلات النمو ورفع مستوى المعيشة، ولا تقليل الاعتماد على العالم الخارجي، أو صيانة الاستقلال السياسي والاقتصادي للبلاد المدينة. فكل ما يعنيها هو حماية حقوق الدائنين وضمان انفتاح أسواق البلاد المدينة أمام صادرات البلاد الصناعية وتهيئة المناخ للاستثمارات الأجنبية الخاصة من خلال المزايا والضمانات التي تجعل متوسط معدل الربح في البلاد المدينة أعلى من نظيره في البلاد الأخرى. وربما يفسر لنا هذا، لماذا ينجم عن برامج التثبيت والتقويم الهيكلي زيادة بطالة اليد العاملة. فهذه البطالة تكون ضاغطة باستمرار على خفض معدلات الأجور الحقيقية وهي أمر مغر لجلب الاستثمارات الأجنبية الخاصة. فليس من المتوقع إذن أن يتمخض عن سياسات تدبير الأزمة حل ناجح لمشكلة البطالة. ذلك أن هذه السياسات ليس من مهامها تنمية بلادنا. وبدون التنمية المستمرة لا أمل في علاج هذه المشكلة. فالتنمية المستمرة بما تحققه من معدلات عالية للنمو من خلال ما تستند إليه من قدرة على التراكم ومن تغيير في بنية الاقتصاد الوطني، ومن توسيع للطاقات الإنتاجية وخلق فرص متزايدة للتشغيل، هي الإطار الوحيد لعلاج مشكلة البطالة. وصياغة هذه التنمية وتحديد مراحلها، وحشد الموارد اللازمة لتحقيقها، تعتبر مهمة تقع بالدرجة الأولى على عاتق أبناء هذا الوطن. نحن محتاجون إذن لأن نفكر في تدبير الأزمة الاقتصادية لبلادنا بمنطق مختلف تماما عن منطق المؤسسات المالية الدولية ومانحي القروض. ولا يجب أن نقع في وهم أن هذه المؤسسات تساعدنا على تنمية بلادنا وعلاج مشكلاته الاقتصادية. فتلك مهمة أبعد ما تكون عن أهداف هذه المؤسسات ومراميها الحقيقية. كذلك يجب ألا نقع في وهم أننا سائرون على الطريق الصحيح عندما تمتدحنا هذه المؤسسات بسبب التزامنا بتنفيذ ما تطلبه منا من سياسات وإجراءات. فمعيار المديح هنا، ليس لأننا نتقدم اقتصاديا واجتماعيا، بل لأننا ننفذ حزمة السياسات التي تحمي حقوق الدائنين وتضمن أن تنفتح أبواب المغرب على مصراعيها لاستقبال البضائع ورؤوس الأموال الأجنبية التي تحقق لأصحابها معدلات عالية من الربح. فالبطالة تفاقمت في بلادنا حينما توقفت جهود التنمية وتراجعت الدولة عن قيادتها، وحينما احتدمت فيها أزمة المديونية الخارجية وتعمقت في ضوئها أواصر التبعية للاقتصاد الدولي المأزوم. جواد الشفدي