حزنت لوفاة المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري رحمه الله، واستعرضت ذاكرتي ساعة سماعي بالخبر ما بقي عالقا بها من أسماء المفكرين والعلماء من أصحاب المشاريع الكبيرة الذين انتقلوا إلى دار البقاء في السنوات الأخيرة، ولم أحزن لقدر الله فالموت حق ولكني حزنت لقلة الخلف في حدود علمي، وتساءلت مع نفسي: هل من خلف لهذه الهامات وهذه الأسماء الثقيلة بما أنجزته وألفته وأغنت به الفكر العربي والإسلامي والإنساني؟ الجواب البديهي الذي قد يتبادر إلى ذهن الكثيرين أن الخير لا ينقطع في هذه الأمة المعطاء. ولئن كنت لا أنكر هذا من حيث المبدأ فإني أشكك فيه من حيث الواقع المَعيش في العالم العربي، وحال أنظمته التعليمية ومستوى إنتاجه المعرفي والفكري كماً وكيفاً في العقد الأخير الذي يصيب الإنسان بالإحباط، ذلك أن المناخ العام لم يعد يشجع على ظهور الطاقات الفكرية والعلمية الحاملة لمشاريع النوعية والبانية والملتزمة بهموم مجتمعها وتحدياته، في ظل تعليم أريد له أن يرتبط بسوق الشغل وحاجياته، وغير معنيّ بمن يحافظ على تجدد وتطور المجتمع فكرياً والحفاظ على الاستمرارية والتراكم الفكري والعلمي في مجالات الفلسفة والتاريخ والأدب والفكر وعلوم أخرى، وأكبر شاهد على ذلك الميزانية المرصودة للبحث العلمي. جامعاتنا تخرّج كثيراً من أصحاب الشهادات الكبيرة والألقاب العلمية، لكنها لا تخرج لنا كثيرا من المفكرين والمجددين في مجالات كثيرة من نفس عيار محمد عابد الجابري أو عبدالوهاب المسيري وغيرهما فهم حصيلة مناخ وواقع اجتماعي وفترة تاريخية مختلفة، لم تكن مهووسة بتأمين المستقبل بالحصول على الوظيفة، ولم يكن نظام التعليم يومها -بغض النظر عما يمكن أن يلاحظ عليه- رهينة لطموحات الشركات الكبرى والمعامل والمصانع وباختصار لرجال المال والأعمال، ولم تكن الحكومات يومها تعتبره عبئا ثقيلا يلتهم نسبة معتبرة من ميزانيتها السنوية. وبات واضحا قبل عقدين من الزمن أن كثيرا من الدول العربية لا تحمل همّ تجدد النخب الفكرية والعلمية والحرص على استمرار الإنتاج، والإبداع والاجتهاد خاصة في المجال الفكري والفلسفي والسياسي والأدبي والتاريخي والديني، وقدمت استقالتها في هذا الباب تاركة المهمة للصدفة وكرم التاريخ وجوده بين الفينة والأخرى باسمٍ في هذا المجال وبآخر في ذاك المجال بعصاميتهم ومجهودهم الشخصي، بعيدا عن أي استراتيجية وبرامج مخصصة لتخريج علماء ومفكرين بالمعنى الحقيقي للكلمة وليس أصحاب شهادات تفيد في الحصول على الشغل والمناصب والترقي فيها، لكنها لا تعني في الغالب القدرة على الإبداع والإنتاج الفكري والعلمي النوعي المساعد على رقي المجتمع وتطوره. طبعا لا تقع مسؤولية تجدد الطاقات الفكرية والعلمية واستمراريتها على الحكومات وطبيعة برامجها ومخططاتها في هذا المجال، بل يتحملها المجتمع والأسرة والإعلام كذلك لخطورة دورهم في التربية وتشكيل الوعي لدى الناشئة، فالأسرة الحريصة مثلا على تربية أبنائها على حب القراءة والارتباط بالكتاب وتحبيبه إليهم خارج واجباتهم ومقرراتهم المدرسية، ليست كالأسرة المعنية فقط بالمقرر الدراسي والنجاح في آخر السنة. والمجتمع الذي يُعلي من شأن الكتاب ويحتفل به من خلال كثرة المكتبات العامة، والمبادرات المحفّزة على القراءة، ويحترم المثقفين والمفكرين والعلماء ويقدرهم رمزياً ومادياً، يعطي رسالة إيجابية للناشئة ويحفزها للسير على منوالهم واقتفاء أثرهم، ليس هو المجتمع الذي يحتفي أكثر بنجوم الرياضة والسينما والطبخ والغناء و... ويربط المسلسل التعليمي كله بالحصول على وظيفة، إن كان محظوظاً وحصل عليها. أما دور وسائل الإعلام فأخطر في عملية تشكيل عقول وتحديد أذواق ورسم اتجاهات متلقي رسائلها خاصة في مرحلة الطفولة والشباب، حيث يصعب على العموم تحليل وتفكيك تلك الرسائل، التي تطرحها بأساليب يمكن وصفها بالجهنمية أحيانا في قدرتها على التأثير. وبإطلالة سريعة على وسائل إعلامنا العربية وأخص هنا بالذكر القنوات الفضائية، نجد أن رسائلها لا تساهم مطلقا في بناء نخبة فكرية علمية مبدعة ومجددة، وعلى العكس من ذلك تنفر من هذا المسار، بتسليطها الضوء في أوقات الذروة على المسابقات الغنائية والرياضية، والأفلام والمسلسلات والإشهارات وما شاكلها، وتخصيص حجم ضئيل جداً للشأن الفكري والثقافي والعلمي في برامجها، وفي أوقات غير مناسبة (أوقات النوم) وفي هذا رسالة لمن يهمه الأمر من الجيل الصاعد، وتحديد لوجهة النجاح السريع والكسب المادي الوفير والشهرة و... ونحن في زمن العولمة والسرعة التي لم يسلم منها المجال الفكري والثقافي، فلم تعد الغالبية العظمى قادرة على قراءة الكتاب بكامله ولا كل ما كتب في مسألة معينة لتكوين فكرة سليمة متكاملة عنها، وأصبح الإقبال أكثر على +السندويشات؛ الثقافية، وباتت الصحف والمجلات وما شاكلها المرجع الغالب ل +ثقافة ومعرفة؛ الكثيرين، وحتى الصحف نفسها تتفادى المقالات المطولة لكي لا يملها القارئ... ولا أعتقد أن واقعاً بهذه المواصفات -مع صعوبة التعميم والجزم- يوفر مناخاً لظهور مفكرين وعلماء جدد بمواصفات الجابري وأمثاله رحمهم الله جميعا.