ثمة خلط كبير يحاول البعض أن يرسخه في الأذهان حتى يصبح حقيقة مستقرة أو بديهة من البديهيات، فيعمد باسم الدفاع عن الفن وحرية الإبداع إلى التسويغ لانتهاك القيم والتمرد عليها وتكسير الثوابت القيمية، كما لو كان من وظيفة الفن أن يتجرد عن القيم ويتحرر منها. هل يمكن للفن أن يتجرد من القيم؟ وهل تسوغ حرية الإبداع التنكر للقيم المعيارية للشعب؟ نظريا، بل وحتى عمليا، لا يمكن لأي فن، كيفما كان، إلا أن يكون حاملا لقيم معينة، ولا يمكنه بحال أن يتجرد مطلقا من القيم. والخلط الذي يرتكبه بعض المتحمسين لحرية الإبداع، أنهم لا يشعرون حين يدافعون عن حق الفن في أن يصدم ثوابت الشعب وقيمه أنهم في الحقيقة يعبرون عن وجهة نظر تدافع بشكل مطلق عن تلازم الفن بمنظومة القيم. الفرق هنا هو أنهم يدافعون عن قيم أخرى غير قيم الشعب المغربي. وفي المحصلة؛ فإن جوهر المشكلة ليس في علاقة الفن بالقيم، كما يحاول البعض أن يوهم الرأي العام بذلك، وإنما هي في نوع القيم التي يراد للفن أن يحملها ويدافع عنها. إن الذين يدافعون اليوم عن حرية الإبداع، ويعلنون كل مرة أنهم يشتغلون في الفن وليسوا دعاة أخلاق، هؤلاء جميعا، يقدمون في الحقيقة فنا مشحونا بالقيم، ولكنها قيم أخرى تنتسب إلى منظومة أخرى تخالف منظومتنا القيمية والمعيارية. إنهم مثلا لا يمكن أن يتحرروا من القيم التي تنبذ العنصرية والمعاداة للسامية، ولا يمكن لخيالهم أن يسمح لهم بالإبداع فيما يصادم ما يسمى بالقيم الكونية. فقط حينما يتعلق الأمر بمنظومتنا الأخلاقية التي تقف ضد مشاهد العري والجنس وحين يتعلق الأمر بالوقوف ضد كل الرسائل الفنية التي تهدد الأمن الروحي للمغاربة، في هذه اللحظة فقط، يتم الدفع بحجة حرية الإبداع، وأن الفن هو إبداع، وليس ممارسة أخلاقية. إنهم لا يشعرون حين يزيدون إلى أفلامهم جرعات كبيرة منالجرأة الجنسية أنهم في الحقيقة ينطلقون من نزعة أخلاقية متطرفة تستند إلى أخلاق العري في مقابل أخلاق الستر، وتستند إلى أخلاق تثوير الجنس في مقابل أخلاف العفة. إن جوهر الإبداع وحقيقته لا تطال القيم كقيم، فالمجتمع المغربي، مثله في ذلك مثل جميع المجتمعات، تتناقض فيه تمثلات الأفراد للقيم، وتبرز فيه تجليات من السلوك تعكس التوتر في توجهات الأفراد في علاقتها بالقيم. صحيح أن من مهمة الفن أن يبرز هذه التناقضات، وأن يقف عند الاختلالات المجتمعية، لكن الواقعية في الفن، وهي الحجة التي يتم دائما الاستناد إليها لتبرير تكسير قيم وثوابت المجتمع المغربي، هذه الواقعية، بهذه الصورة، لا تسوغ إمكانية أن يتحول الفن من المرآة التي تكشف تناقضات الواقع وتبعث بالرسالة الفنية التي تتضمن مساهمة الفن في معالجة هذه الاختلالات، إلى أداة لعرض هذه التناقضات، كما ولو كانت هدفا بحد ذاتها، إما بقصد تجاري أو بقصد الإثارة أو بقصد خلق جدل إعلامي حول عمل فني معين يتم استثماره من أجل تحصيل نجاح للفن من خارج العمل الفني. بكلمة، إن الفن في جميع صوره وأشكاله، لا يمكن أن يكون إلا حاملا للقيم، وإذا لم يحمل قيم الشعب المغربي المسلم، فإنه بالضرورة يكون مشبعا بقيم أخرى، ومحاولة الخلط والإيهام بكون الفن متحررا بطبعه، يميل نحو تكسير كل القيود وفي مقدمتها القيود الأخلاقية، إنما هي في الحقيقة، طريقة للتحرر من قيم معينة للانتظام في قيم أخرى. وإذا كان الفن بهذه الصورة، حاملا بالضرورة للقيم، فهو حين ينتسب لبلد، أو يكون معبرا عنه عاكسا لهويته وثقافته، إنما يستلزم الأمر منه أن يكون منسجما مع المنظومة القيمية للمغاربة غير مغترب عنها منتظم في قيم أخرى. إنه حين يتجرد من قيم المغاربة، لا يمكن بحال أن يكون فنا مغربيا إلا أن يفرض على المغاربة قسرا بقوة القهر الرمزي الذي يستعمل اليوم ضد المغاربة. وبناء على هذا التحديد، فإن أي فن مستورد من الخارج، أو أي عمل فني يستقطب فنانين من الخارج، يستلزم بالضرورة أن يكون منسجما مع المنظومة القيمية للمغاربة. إن العمل الشنيع الذي أقدم عليه أحد المغنين في إحدى دورات مهرجان موازين السابقة حين كشف عورته أمام الجمهور المغربي المسلم، يعطي صورة عن الإبداع الذي يمكن أن يفرض على المغاربة قهرا في الوقت الذي يتعارض مع منظومة قيمهم، بل ويتعارض مع القيم الإنسانية العالمية المشتركة. إن الانضباط لقيم المغاربة ليس حجرا على الفن، ولا تعسفا عليه، وإنما هي الشروط الضرورية للتعايش والانفتاح. فالانفتاح لا يكون بفرض ثقافة الآخرين على الشعوب، وإنما هو التعايش بين ثقافتين في الحدود الذي لا يحصل فيها الإضرار بإحداها. والفن الأجنبي بجميع صوره وأشكاله، بلا شك، يملك من سعة الخيال، وكثرة الموضوعات المطروقة، ما يجعله قادرا على تقديم لوحات ومقطوعات ومشاهد تغري بالاستمتاع والمشاهدة من غير أن يضطر إلى استفزاز الجمهور المغربي والمس بقيمه الأخلاقية. المشكلة، أن بعض القائمين على الشأن الثقافي والفني ببلادنا، لا يستحضرون هذه الرؤية، بل إن بعضهم يحتاج إلى أن يقوم بتمرين يسائل فيه نفسه عن نوع القيم التي يحملها وعلاقتها بقيم الشعب المغربي.