في إحدى التظاهرات السينمائية الجامعية، قال أحد الممثلين المغاربة لايعقل أننا في القرن الواحد والعشرون مازلنا نتحدث عن الأخلاق في السينما، بنبرة صوتية حادة يخيل للمرء من خلالها أن التحدث عن الأخلاق في الفن أصبح جريمة تستحق العقاب، فقلت مع نفسي أتريدها (السينما) ماخورا على شاكلة أفلام (لويس بونيال)؟ فلماذا إذن أنتم معجبون بالسينما الإيرانية التي تحافظ على قيم وأخلاق المجتمع الإيراني المسلم؟ ألأن أوروبا فعلت ذلك أم أن السينما الإيرانية فرضت نفسها جماليا وتقنيا وموضوعاتيا؟ إن علاقة السينما بالأخلاق في مفهومها الشامل وطيدة وقديمة، ذلك أن الفن وليد بيئته الثقافية والاجتماعية والأخلاقية. فالفيلم الأمريكي مثلا الذي نعده متحررا من كل القيود تحكمه نظرة أخلاقية خ دينية للوجود (مسيحية خ يهودية)، سواء في الأفلام القديمة الصامتة (شارلو) أو الحديثة. فالكنيسة كرمز للدين حاضرة بقوة في السينما الأمريكية، حتى في أفلام رعاة البقر، وجل الأفلام الأمريكية لاتخرج عن المثلث المرسوم لها: الدين، الوطن والمال. ويؤكد هذه الفكرة عالم الاجتماع الأمريكي سيمون ليبيث قائلا: إن أمريكا أكثر دول العالم تدينا وتفاؤلا ووطنية. وعليه فقيم العدالة والحرية والدفاع عن الأرض وحقوق المواطنين والدفاع عن المرأة المغتصبة والطفل المغتصب ... التي نستشفها من الأفلام، مصدرها الأخلاق والدين (يهودية، مسيحية وإسلام). رغم محاولة تجريدها من ذلك وإضفاء طابع الإنسانية والكونية عليها. من جهة أخرى، فإن إشكالية الصراع بين الأخلاق والسينما أو الدين والفن، التي يحاول بعض المثقفين والسينمائيين أن يثبتوها في مجتمعنا هي إشكالية باطلة من الأساس، ذلك أنها مستوردة من أوروبا تربتها غير تربتنا. فنحن نعرف أن نفور العقل الأوروبي من الدين ومن الأخلاق سببه الكنيسة المستبدة التي صادرت الحرية والعقل والفكر والإبداع إلا ما يخدم مصالحها. فانعكس هذا على جميع ميادين الفكر الأوروبي (أدب، فن، علم وسياسة)، ومن ثمّ جنح هذا الأخير عن الرؤية الصحيحة لحقائق الوجود الرئيسة (خالق الوجود، الدين، البعث...)، ولو أن أوروبا اليوم تعرف رجوعا إلى كل ماهو روحي وديني. وللأسف، انبهر ثلة من المفكرين والسينمائيين من بني جلدتنا بذلك الفكر، فأسقطوا تلك الإشكالية على واقعنا المختلف تماما عن الغرب. وسقطوا في التقليد لما هو أسوأ في السينما الغربية: التركيز على الإثارة وعلى الجنس والمادة، مايدور في الحمامات النسائية، وغرف النوم، حكايات العصابات والجريمة وصوت الرصاص والحانات والرقص والخمور، وكذلك التمرد والسخرية من الأديان والقيم العالية والانفلات من الضوابط الأخلاقية التي يحلم بها دائما المراهقون والمحرومرن. فالنفس المختلة تثير الفوضى في أحكم النظم، وتستطيع النفاذ منه إلى أغراضها الدنيئة. وهذا ما يميز السينما المغربية في العشر سنوات الأخيرة، ولو أن الإرهاصات الأولى بدأت مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي، تحت تأثير ما يمكن أن نطلق عليه العولمة السينمائية والفنية التي لاتبحث إلا عن التسطيح، والتنميط والإسفاف والاستخفاف بعقول الشباب. وهكذا رأينا ممثلات فتيات يتسابقن إلى الظهور في مشاهد مثيرة ومخلة بالحياء والأخلاق، وشباب باسم الفن يقوم بأدوار ساقطة فارغة من كل إبداع وجمالية. وانتشار مثل هذا النوع من السينما مرده إلى وجود لوبيات داخلية وخارجية متربصة لالتقاط أولئك الفنانين والسينمائيين الذين لايجعلون من الأخلاق أولوية لهم. فتقوم بالدعاية لهم ونشر أفلامهم على نطاق واسع، وتسخّر لهم الصحف والمجلات والمال، فتوصلهم إلى مكانة لها دوي يخترق الآذان، ثم تنشئ لهم جيلا يتلقف فنهم وفكرهم ويتعصب لهم. جيل يرى أن الغرب هو مهبط الوحي وزاد الحياة، باعتباره كسر كل الطابوهات، وأن قيمه وأخلاقه كبت وقيد للتحرر، فيكمل المشوار ويتجاوز أساتذته باسم الفن، والفن منه بريء. فالفن، خصوصا السينما، لأن الصورة تنقش الذاكرة والمخيل، ليس فقط الفردي بل الجماعي (أفلام رعاة البقر، وحرب الفيتنام، والعرق أعادت تشكيل المخيل الجماعي الأمريكي)، سمو والتزام وارتباط بالأرض التي غذته، ينمي ذوقها ويقيم انحرافها ويساهم في تطويرها والتعريف بها عند الآخر. وهذا هو دور السينما المغربية اليوم إن هي أرادت كسب جمهورها واستمراريتها: الحفاظ على هويتنا الثقافية والأخلاقية واللغوية، من دون السقوط في الوعظ والإرشاد والخطاب المباشر كما يظن البعض، وتعويد المواطن المغربي على الذوق الفني والحس الجمالي مع التعبير بصدق عن همومه اليومية، وقضايا أمته بدل الكذب والخداع باسم الواقعية الزائفة. ومازلت أتذكر أن فيلم المطرقة والسندان 1990- لحكيم نوري كان له الأثر الكبير ليس فقط على المشاهد المغربي بل أيضا على أصحاب القرار السياسي. وفي المقابل أتذكر أنه لما عرض فيلم (حب في الدارالبيضاء 1991-) خرج أحد الممثلين المرموقين من قاعة العرض فتلقته كاميرا القناة الأولى، فصرّح بالحرف اللهمَّ إن هذا منكر. وستقال هذه الكلمة مع كل فيلم (كما قيلت في مهرجان طنجة الأخير) يخدش حياء وكرامة وأخلاق المغاربة.