حين يمارس رجل السينما، مخرجا وناقدا، حقه في نقد فيلم من الأفلام، ويصرح بأن الفيلم ضعيف بكل المقاييس، أو يتمرد على القيم الدينية، أو لا يحترم مشاعر الشعب المغربي وثوابته، تتقوى بعض الجهات لتصفه بالردة الفنية والاصطفاف إلى الجبهة الأصولية، وحين يعرض مسلسل يتناول بعض المضامين الإسلامية بنسق درامي متميز تتحرك نفس الجهات مدعومة ومصحوبة بحملاتها الإعلامية تستهدف هذه الأعمال، وتصفها بدعم المواقع الرجعية للأصولية، وحين يختار بعض الرموز الفاعلين في الحقل الدرامي أن يتفرغ لنوع من الفن ليؤدي وظيفة رسالية معينة، تنطلق دعاوى التكفير العلماني الاستئصالي، كأن هؤلاء الفنانين قد صبأوا وارتدوا وآبوا إلى شراك الأصوليين، وحين يخرج من صلب العلمانيين من يناصر قضية عادلة يتقاسم فيها الموقف مع الإسلاميين، لا يتردد الاستئصاليون في التعبير الساخر من هؤلاء الذين فضلوا أن يزيدوا إلى أذقانهم لحية مرسلة، وإلى وجوههم دينار الصلاة. غريب أمر هؤلاء، فإما أن تكون معهم، فأنت ترضع لبان الديمقراطية، وتؤمن بالتعدد والاختلاف، وتتشرب معاني التسامح والانفتاح، وإما أن تخالفهم الرأي فحينها تصنف نفسك بالضرورة ضمن جبهة الأصوليين الظلاميين. الديمقراطية ليست قميصا مخيطا على مقاسكم حتى تعدلوا في قده وقديده، وليست وعاء فارغا تملؤونه بما اشتهت أنفسكم. الديمقراطية حرية في التعبير، مكفولة للجميع، واختلاف في الرأي قد يصل درجة المرارة، وإيمان بحق الآخر في إبداء وجهة نظره. يكون من المفيد لبعض من يتجاسر على كيل التهم للتجديد أن يتذكر المعالجة الإعلامية التي قامت بها وهي تتعامل مع فيلم ماروك في أول عرض له في المغرب في سينما لينكس بالبيضاء. كانت الجريدة تدرك أن ليلى المراكشي تراهن على الأصوليين لتخلق حراكا ثفافيا لفيلمها تضمن به رواجا في سوق التجارة السينمائية، فليس المعول اليوم إلا على الأصوليين لرواج التجارة، ولهذا فقد كانت خرجتها الإعلامية واضحة في هذا الباب حتى قبل أن يعرض الفيلم، فقد صرحت بأن الفيلم سيكون صادما للأصوليين، بل وذكرت حزب العدالة والتنمية بالإسم، ولم يكن يغيب عن التجديد مثل هذا القصد، ولهذا فقد تعاملت مع الفيلم بمهنية، وحاورت المراكشي ونشرت ضمن صفحاتها مقالين: ناقشت في الأول: فكرة السلام اللامتكافئ التي اعتبره بلال التليدي رسالة للفيلم، وناقش ابراهيم الخشباني في المقال الثاني الجوانب الفنية والدرامية التي اعتبرها ضعيفة بكل المقاييس. وقفلت الجريدة الملف، ولم تفتحه حتى ثارت ثائرة المخرجين والنقاد السينمائيين في مهرجان طنجة، تندد بهذا العمل الفني المشين، حينها تدخلت مرة ثانية جريدة التجديد بمهنية، ونقلت وجهات نظر محترمة وناقدة ومختصة. لم يتحرك القلم الأصولي ليمارس نقده للمشاهد الخليعة الموجودة في الفيلم وكان من حقه أن يفعل ذلك، ولم يشن حملة على مظاهر الاستهتار بالمشاعر الدينية الموجودة التي جعلها الفيلم قاعدته ومنطلقه بل ورسالته الفنية، والديمقراطية تسمح له أن يذهب في هذا الخط بعيدا. وتحرك أولوا الاختصاص يتحدثون ويبدون مواقفهم، ، لكن حملات الاستئصاليين لم تتوقف، لقد جمعوا الجميع في كفة واحدة، ونسبوا أهل الفن إلى جبهة الأصولية، وقذفوا بسيل تهمهم. الآن وضحت نياتهم، فليس مقصوهم فقط استهداف الأصوليين، وإنما كل من يدافع عن القيم، ويتشبث بالثوابت الوطنية والدينية. فليس أسهل عندهم في حملتهم تلك إن خرج أحدهم عن طوعهم أن يصنفوه في مواقع الأصولية. فالفنان محمود حسن الجندي يوظفه الأصوليون، والمخرج العسلي أطلق لحيته، والفنانة المقتدرة ثريا جبران ارتدت، وكل من انحاز إلى القيم فمصيره أن تشن عليه حملات التشهير، وأن تلصق به تهمة الأصولية والتطرف. تكون الديمقراطية كئيبة لو فصلت على مقاس هؤلاء، ويكون ثوبها ضيقا لا يتسع إلا لمن رأى رأيهم وائتمر بأمرهم. في هذه المعركة الطويلة، سينفذ سلاحهم، ولن يبقى لهم سوى أن يجتهدوا في إبداع تهم أخرى، وإعدادها بعناية خاصة، فلا شك أن الذين سيخرجون من السرب كثير، ولن تنفع نفس التهم، ولن يجدي نفس الخطاب، فأعدوا رسائلكم، وغيروا من لغتكم الكئيبة حتى لا تصير معالجاتكم ثقيلة على السمع، عصية على ذوي الذوق. لهؤلاء نقول: إن الفن رسالة يلتزم الفنان بأدائها، وهي لا تعني ألا نصور الواقع بمعضلاته وظواهره، لكنها لا تعني أيضا تدمير الثوابت المجتمعية. الفن يكون جميلا معبرا يتذوقه العشاق لو عالج كل ما نراه في واقعنا ومعاشنا بأسلوب درامي مميز تحضر فيه ظواهر المجتمع وقضاياه، كما تحضر فيه الرسالة الفنية المعالجة، كل ذلك في نسق فني بديع دون التمرد على القيم والثوابت والمشاعر الدينية.