الدعوة التي أطلقها الشيخ أحمد الريسوني من برنامج الشريعة والحياة الأسبوع الماضي والتي طالب فيها العلماء بالتشبع بروح العصر والانخراط في معالجة القضايا الشائكة عند الأمة ومنها التدخل المتعاظم للغرب في مختلف مجالات الحياة العامة للمسلمين، تعيد السؤال المؤرق والمتمثل في فشل مشاريع الاستنهاض التي ارتبطت بالحركات الإسلامية المعاصرة في إطلاق مسار يجدد الموقع القيادي للعلماء في الحياة العامة ويتيح لهم المبادرة في التصدي للقضايا الشائكة للمجتمع والدولة، وهو السؤال الذي يجد مرجعيته في استيعاب التجربة الاستعمارية التاريخية التي استهدفت وبشكل أساسي مع مقدمها الدور الحيوي للعلماء. نتوقف في هذه المقالة عند الحالة المغربية، والتي تصلح للتعميم على حالات أخرى. لقد احتل العلماء تاريخياً موقعاً متميزاً في المجتمع المغربي، وارتبط بهم عدد من المهام الضامنة لاستقرار المجتمع وتوازنه وتطوره كالتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترشيد سلوك الدولة، والحاجة الدائمة لهذه الأخيرة للعلماء في اتخاذ بعض القرارات السياسية المرتبطة بفتاوى أو من أجل ضمان تعبئة المجتمع وراء قرار ما، مما يستلزم المشاركة الفعالة للعلماء، أي أن مسؤولية العالم في المجتمع مسؤولية جسيمة، بحيث أن عددا من حركات الإصلاح ارتبطت بالعلماء مما جعل أي اختلال يصيب هذه الفئة ذا انعكاساتٍ حادةٍ وسلبيةٍ على مستوى المجتمع والدولة معاً، وعرف المغرب منذ اشتداد الضغط الاستعماري عليه تبلور تيار إصلاحي على مستوى العلماء رغم اصطدامه بتيار مضاد، كما شهدت العشرية الأولى من القرن العشرين تصدر قطاعات من العلماء لمواجهة التهديدات الأجنبية وتعبئة المجتمع لمواجهة تلك المطامع وتصدرهم للدعوة للجهاد مما أعاق لسنواتٍ التمكنَ الاستعماري من المغرب، وهو ما يفسر مسارعة الاستعمار لاستمالة العلماء وعدم الاصطدام بهم وتعيينهم في بعض الوظائف المخزنية من أجل تحييدهم والاستفراد بالمتميّز منهم، حتى أن الأنتروبولوجي ديل إيكلمان في كتابه عن الإسلام المغربي لاحظ أن الفرنسيين استطاعوا استمالة معظم العلماء إلى صفهم طالما كان بإمكانهم الحفاظ على وهم احترامهم للإسلام وموافقة السلطان على أعمالهم، وبمجرد ما بدأ هذا الوهم يتلاشى في أواخر الأربعينيات عبر سلسلة من المواجهات بين القصر والإقامة، أصبحت أيام الحكم الفرنسي معدودة. كيف جرت هذه الاستمالة؟ وكيف حصل هذا التحول؟ من المعطيات الدالة هنا أن عدد العلماء المستفيدين من منح الأوقاف لم يتجاوز 388 عالما منهم 100 بفاس و89 بمراكش و88 بالرباط و58 بسلا، و28 بمكناس، و15 بآسفي و11 بالبيضاء، و8 بالصويرة، و7 بطنجة، و5 بكل من تازة ووجدة ووزان، و4 بمزكان، و2 بصفرو، وواحد بأزمور وانتقلت المخصصات لذلك من الميزانية من 46 ألف فرنك في سنة 1915 إلى 700 ألف فرنك في ,1933 وهي معطيات تدل على عمق الاستهداف والاختراق الذي أضعف الاستقلال المالي للعلماء إن لم نقل قضى عليه. كما نجد أن عمليات التعيين للعلماء المرتبطة بالقرويين أو المساجد كانت خاضعة لمراقبة دقيقة من لدن الاستعمار، حيث كانت تقاريره الشهرية تتضمن فقرات عن أي مستجد يهم هذا الجانب، وأدى الارتباط بهذه المنح إلى تورط قلة من العلماء في مسلكيات التعاون مع الاستعمار ولو في المستويات الدنيا المرتبطة بتسيير شؤون المغاربة المسلمين، مما انعكس على مصداقيتهم، كما تم اللجوء لآلية التوظيف في المناصب والوظائف السامية من أجل إبعاد العلماء عن مهام التأطير والتوجيه مما أدى إلى نوع من التخريب العملي لكل من جامعتي القرويين وابن يوسف. ومن الجوانب المجهولة السعي الذي تم من أجل تنظيم الإفتاء في المغرب عبر ظهيرٍ مؤرخ في 7 يوليو ,1914 والذي عمل على حصر عدد من يتولون منصب الإفتاء وتسجيلهم في لائحة، إلا أن هذا الظهير ألغي بظهير 7 فبراير ,1944 والذي ألغى الطابع الرسمي لعملية الإفتاء لتصبح مسألة خاصة بالمعنيّ يذهب لمن شاء وذلك حسب وثيقة للخارجية الفرنسية مؤرخة في 18 أغسطس ,1953 والتي أشارت كذلك إلى التنظيم القائم للأئمة والخطباء والوعاظ ودور وزارة الأحباس في ذلك إلى جانب كل من جامعة القرويين وابن يوسف ومركزي الدراسات الإسلامية بكل من طنجة وتطوان. هو تطور قابله ردّ فعلٍ مضاد، من النماذج الدالة عليه نأخذ حالة محمد الفاسي الذي اشتغل لفترة نائبا لرئيس جامعة القرويين، حيث تم فرض الإقامة الجبرية عليه بعد أحداث ديسمبر 1952 ثم نقل إلى سجن أغبالوا نكردوس بمنطقة مكناس، وتدل وثيقة من الخارجية مؤرخة في 24 ديسمبر 1953 على الاهتمام الكبير بنشاطه وللإشارة فهي موقعة من لدن المقيم العام غيوم نفسه. ما سبق يدل على أن ما نشهده حاليا من اختلالات اكتسبت طابعا شموليا، مما جعلها نتاج مسار انطلق منذ أزيد من قرن وتصعب معالجته بدون العودة لجذور المشكل الذي استهدف تكوين العلماء واستقلاليتهم المادية والإدارية وفعاليتهم المجتمعية.