لقد فرض تيار الوسطية نفسه في الساحة الإسلامية كخيار وحيد بالحجة والإقناع، وبالنتيجة العملية والمآلات العملية لخيارات أخرى غير الوسطية. وقد حدد الشيخ القرضاوي الوسطية في عشرين نقطة، يمكن أن نجمعها في نقطة واحدة، الوسطية هي الاعتدال بين طرفين مذمومين، وليست مطلق الاعتدال بين طرفين متباعدين. فلو كان الأمر هندسيا، نقطة في خط مستقيم بين نقطتين متقاربتي المسافة، كل منهما إلى اليمين أو الشمال بنفس المسافة، لكان من قتل عشرين نفسا وسطا بين من لم يقتل وبين من قتل أربعين، وكان من سرق ألفا وسطا بين الأمين الذي لم يسرق، وهذا خطأ. إذن.. فالوسطية ليست وسطية هندسية ميكانيكية، ولكنها وسط بين طرفين مذمومين.. كالكرم فهو وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة فهي وسط بين الجبن والتهور، وكغيرها من الأطراف المذمومة، التي وسطها هي الأحسن والأجدى. وهناك معنى آخر للوسطية في اللغة، وهو الجودة، فوسط الشيء هو أعلاه وأجوده، وهي معانٍ متكررة في المعاجم العربية؛ لأن الشجاعة هي أجود الاختيارات بين الجبن والتهور، كما أن الكرم أجود الاختيارات بين البخل والتبذير، كما أن الإيمان أوسط الاختيارات بين الخرافة وبين الإلحاد. وبهذا لا تكون الوسطية قرينا دائما للين، فقد يكون اختيار القوة في بعض المواقف والمواضع أجود من اختيار المسالمة والمهادنة، فإذا كانت المهادنة قرينة الاستسلام، فلا تكون وسطا، وإنما تكون خيانة وسقوطا واستسلاما. والوسطية بعد هذا التوضيح التصوري واللغوي العام هي بالأساس منهج الدعوة الإسلامية؛ لأن الله عز وجل جعل الأمة وسطا، بين من غالوا في الدنيا كاليهود، ومن غالوا في الآخرة كالنصارى، بين من أفرطوا في الإيمان لدرجة الخرافة ، وبين من فرطوا في الدين إلى درجة الإلحاد الدنيوي. الوسطية أيضًا وسط في الأرض، فالأرض الإسلامية وسط بين كل الأراضي والأقاليم والقارات، وسط في الاختيارات فهي تجمع بين خيري الدنيا والآخرة، تجمع بين الجهاد والسلام، فالإسلام دين السلام، ودين الجهاد، وليس هناك تناقض، فالإسلام ليس دين إبادة وعنف، وليس دين استسلام وسلبية وانتحار. الوسطية في التصورات وفي العقائد، وفي التصور الكوزمولوجي الكوني الوجودي، حيث الألوهية لا تلغي الإنسانية، وحيث يستطيع الإنسان أن يجد موقعه الكريم والمكرم في ظل الألوهية؛ لأنه يجمع بين كونه عبدا لله، وسيدا للكون وفقا لمبدأ التسخير. الوسطية في الأخلاق، فلا مثالية تجعل الإنسان ضحية للخديعة، ولا مادية تجعل الإنسان نهابا مكارا سارقا أثيما، الوسطية في التعامل مع الناس. وفي العلاقات الاجتماعية والزوجية، وسطية في الأسرة بين تطرف حرم الزواج أصلا ودعا للإباحية، وبين تطرف حرم الطلاق وجعل قدسية الأسرة تساوي استمراريتها؛ إذ أباح الله سبحانه وتعالى الطلاق مع وجود حرمة عظيمة لما سمي بالميثاق الغليظ، وهو الصلة بين الرجل والمرأة. هكذا نجد الإسلام يطرح في تشريعاته التعبدية والمعاملاتية، والعلاقات الاجتماعية، وفي تصوره الوجودي، وسطية في العمودين المتعامدين.. أحدهما إلى أعلى صلة بالله.. والآخر إلى الوسط صلة بين الإنسان. الوسطية في الدعوة إلى الله، حيث الصرامة في الدفاع عن الدين دون مجاملة من أحد، وفي نفس الوقت اللين، والكلمة الحسنة {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، ولكن {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}، فلا نتطرف تطرف المذاهب الكنسية التي أباحت الشذوذ، وسمحت للقساوسة أن يكونوا شاذين، بل وزوجتهم داخل حرم الكنيسة، ولا نصل إلى الدخول على الناس إلى بيوتهم وانتهاك حرماتهم، بحجة التفتيش الأخلاقي، كما أعلنته الفرمانات البابوية، وعلى رأسهم فرمان البابا جريجوريوس الأول الذي حوَّل باسم الدين والأخلاق، بيوتَ الناس إلى حرمات منتهكة بحجة البحث عن الفاسدين والمنحرفين. الدين الإسلامي أيضًا وسط في مواجهته للآخر في صراعه معه، فالأصل هو العلاقة الإنسانية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فالأصل التعاون على الخير، (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُم}، والمصاهرة مع أهل الكتاب حل لنا، ولكن من الجهة الأخرى، {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. وسطية في الجمع بين الرؤية الواقعية والرؤية المثالية؛ لأن الإسلام ينطلق من معطيات الواقع، ويقف أمامها موقف المعتبر، فالقرآن الكريم نفسه هو راعَى الواقع، فانفك عن ترتيب الأزلي الذي في المصحف، إلى ترتيب النزول، وراعى أسباب النزول، وراعى المكي والمدني، وصارت علما، وراعى الناسخ والمنسوخ وصارت علما. لكن الإسلام في نفس الوقت جاء لإصلاح الواقع وتطويره، وليس للخضوع له، فواقعية الإسلام ليست وقوعا في الواقع، ولكن مراعاة الواقع، وهذا هو الفرق بين الرؤية الوسطية في التعامل مع الواقع وعدم الرؤية الوسطية.