لا ينكر أحد، بما في ذلك فرق الموسيقى الشبابية المغربية، أن الألوان الغنائية الجديدة مثل الراب والميتال بأنواعه هي تعبيرات ثقافية غربية تم نقلها واستنباتها في المغرب، وشأن هذه التعبيرات الثقافية أن لا تتجرد كلية من مصاحباتها القيمية والثقافية، بل تحمل معها العديد من القيم الغربية التي يتفاوت حضورها حسب اللون الغنائي، وحسب درجة الوعي الحاصل، سواء لدى الفرقة الغنائية التي تحاول أن تقوم بعملية مواءمة هذا اللون الغنائي مع الخصوصية المغربية إيقاعا ومضمونا، أو لدى فئة الشباب المتعاطين لهذا اللون الغنائي، فبقدر ما تحصل عملية المواءمة وإخضاع هذا الوافد للخصوصية المغربية بقدر ما يقل حضور هذه القيم الغربية (نموذج فرقة الفناير)، وبقدر ما تتماهى هذه الألوان الموسيقية مع المنتوج الغربي بقدر ما تكون مشبعة بالقيم المصادمة لقيم وثوابت المجتمع المغربي (نموذج موسيقى البلاك ميتال). بيد أن تتبع مسار هذه الألوان الموسيقية على مدى عشر سنوات، أي منذ بداية انتشارها في المغرب، يتيج الوقوف على ست أفكار أساسية يجدر أن تشكل أرضية خصبة لدراسات بحثية في الموضوع: - الفكرة الأولى: وتتعلق بتفسير انتشار هذه الألوان الموسيقية، إذ المعروف تاريخيا أن هذه الألوان الموسيقية بدأت تنتشر في الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ الستينيات، وعرفت أوجها في السبعينيات والثمانينيات، لكنها لم تصل إلى المغرب ولم تبرز بشكل واضح إلا مع السنوات العشر الأخيرة، إذ تؤكد العديد من الفرق أن مهرجان البولفار (تأسس سنة 1999 ) كان المحطة التي أعطت الانطلاقة الحقيقية لانتشار هذه الألوان الموسيقية الشبابية، وهو ما يطرح سؤالا عميقا عن الجهات التي تقف وراء فكرة هذا المهرجان والأهداف التي تؤطره، وهل الأمر يتعلق بتثاقف حضاري طبيعي، أم بجزء من أجندة سياسية تتخذ الثقافة والفن إحدى أدواتها الأساسية لمواجهة فاعلين سياسيين أو مجتمعيين؟ - الفكرة الثانية: وهي متفرعة عن الأولى، ذلك أن تتبع مسار مهرجان البولفار حتى نسخته الأخيرة، يكشف جزءا من الرهان الإيديولوجي والسياسي على هذه الألوان الموسيقية التي يحتضنها هذا المهرجان لمواجهة الإسلاميين، وهو ما لم يعد سرا بعد أن دخل مؤسس البولفار في جدل إعلامي وإيديولوجي مع الإسلاميين ساندته وغطته في ذلك وسائل إعلامية معروفة، وأخذ بعد ذلك أبعادا سياسية، سواء من خلال التركيز على عدد الحاضرين لفعالية هذا المهرجان (معركة العدد) أو من خلال التركيز على مقولة التسامح (واتهام الحركة الإسلامية بنشر ثقافة التطرف والحقد والكراهية) أو من خلال الارتكاز على مقولة الحرية والإبداع واتهام الحركة الإسلامية بالنزعة الأخلاقوية ومعاداة الفن. - الفكرة الثالثة: وهي ناتجة عن سابقتها، وتتعلق بمصير الألوان الموسيقية الشبابية التي انخرطت في أداء أدوار سياسية لا علاقة لها بالفن والإبداع، إذ توجهت انتقادات كبيرة لبعض الفرق التي انحازت عن الأهداف الفنية، وتخندقت في مشاريع سياسية هدفها مواجهة الحركة الإسلامية، مما جعل بعض الفرق تراجع موقفها وتتأسى بفرق أخرى رفعت شعار نحن للجميع ولسنا ملكا لحزب واحد، ونذكر في هذا السياق تراجع مؤدي الراب الشهير بالبيغ عن موقفه بعد أن دخل في تصفية الحساب مع حزب بعينه، ثم استضيف من قبل بعض الأحزاب في حملة انتخابية، وإعلانه بعد ذلك - تحت تأثير الانتقادات التي وجهت له- عن استعداده للغناء لكل الأحزاب السياسية بما فيها حزب العدالة والتنمية. - الفكرة الرابعة: وتتعلق بمفارقة واضحة بين فرق موسيقية تراجعت بفعل تعارض منتوجها مع الخصوصية المغربية إيقاعا ومحتوى، وبروز فرق أخرى أخضعت هذه الألوان لعملية مغربة موسيقية وقيمية شاملة، وحظيت بإقبال ونجاح كبير، ونذكر في هذا السياق محاولات كل من فرقة الفناير وفرقة آش كاين وأهل المكان وبعض أغاني هوبا هوبا سبريت. الفكرة الخامسة: وتتعلق بالجدل الذي ثار داخل الأوساط الفنية الشبابية حول استعمال الكلمات النابية والساقطة ورفض كثير منها التورط في هذه الأشكال والتحجج بإسلامية الدولة ومحافظة المجتمع وتحصين المراهقين من خطورة تمثلهم لهذه العبارات في حياتهم العامة. الفكرة السادسة: وتتعلق بمستقبل هذه الألوان الموسيقية ومسارها، إذ لم تتعد بعض الفرق التي اتخذت من أسلوب الميتال والبانك والهارد روك سقف الموضة العابرة، إذ لم تستقطب إلا قلة قليلة من المعجبين، في حين حافظت فرق أخرى على القيم وانخرطت في الدفاع عن المواطنة والتنمية والأخلاق ونصرة قضايا الأمة، فلم تحافظ بذلك فقط على استمراريتها، بل أثبت نجوميتها داخل المغرب وخارجه (الفناير، مسلم..) وهي الملاحظة التي تعزز ما سبق أن أشرنا إليه من كون الحفاظ على القيم وعلى خصوصية المغرب وهويته يضمن استمرار هذه الألوان ويضمن نجاجها، وأن الاغتراب والتماهي مع القيم الغربية والمصاحبة لهذه الألوان بعيدا عن هوية المغاربة وقيمهم يشكل سببا رئيسا في موت بعض هذه الألوان الموسيقية، أو على الأقل ضعف الإقبال عليها من قبل الشباب.