مع اقتراب عيد الأضحى المبارك تنتشر في أغلب شوارع المدن إعلانات عن تسهيلات بنكية لتوفير الأضحية، ضمن سلسلة من الإعلانات لا تنتهسي: هذه لتوفير السكن، وهذه لتجهيز البيت، وهذه لعطلة الصيف، وأخرى للدخول المدرسي... وهكذا . والمتتبعون للظاهرة يؤكدون أن كثيرا من المواطنين يقترضون لتسديد القروض السابقة، مما يجعلهم أسرى قروض مغرية تعدهم بالمتعة وتوقعهم في الضيق. وفي تقديري، وبغض النظر عن مقاصد المؤسسات المالية التي أعلنت عن هذه القروض الخاصة بالأضاحي، فإنها تسهم في إفراغ العبادات من مضامينها. والشعائر التعبدية تعرضت عبر التاريخ لكثير من عمليات التشويه والإفراغ ضمن حلقات يقود بعضها إلى بعض، فيكون الهدف الأول هو الحيلولة بين الناس وبين العبادة أو صرف الناس عنها، فإن أتوها فلا أقل من التضييق عليهم، فإن تجاوزوا العقبة الثانية واجهوا العقبة الثالثة وهي الإفراغ من المضمون ليسهل التخلص منها بعد ذلك. ولتكون أشبه بالحاضر الغائب. والمتأمل في كثير من مظاهر التعبد في واقع المسلمين يراها ضعيفة الأثر بعيدة عن تحقيق مقاصدها . لقد اتجه المسلمون إلى تحقيق أحكام العبادات والسؤال عنها والحرص على عدم مخالفتها، وكل ذلك جيد ومطلوب، ولكن المطلوب الأسمى هو تحقيق المقاصد، ولذلك وجدنا الشرع يمنح المكلف صورا متعددة لأداء العبادة؛ لكن مع وحدة المقصد: فهذا الحج مثلا بالإفراد والتمتع والقران، لكن في إطار مقصد واحد. وعليه فإن المفسدة عظيمة حين تتجه إلى هدم مقاصد العبادة وإفراغها. وفي تقديري فإن الفتنة التي أثارتها جماعة وكالين رمضان تأتي في نفس السياق، وهو تجريء الناس على الجهر بالمخالفة في استفزاز وتصادم مع ثوابت الأمة واختياراتها، ونحن نسمع الآن حديثا وإن كان خافتا عن التحريض على الامتناع عن الأضحية في أحد المواقع الإلكترونية، وقد سبق شيء من ذلك في بعض وسائل الإعلام تحت عنوان ٌم ٍفََّّفكْم ، بل وصلت الجرأة أن كتب أحد شيوخ الحداثة العلمانية هل المغاربة كلهم مسلمون؟، وهكذا تتوالى الهجمات المستهدفة لقيم المجتمع وثوابته. والنازلة التي تفرض نفسها هذه الأيام تتعلق بقضية القروض الربوية التي يتم إغراء الناس بأنها الحل الأسهل لتوفير الأضحية. وهي الإعلانات التي يتفنن مبدعوها في اختيار صورها وعباراتها، ومن آخر صور التضليل والتشويه استدعاء مصارعة الثيران في إقناع الراغبين في مصارعة أضاحيهم بأن القروض الربوية تسهل عليهم المهمة. وشتان بين آداب وأحكام الأضحية وبين وحشية وهمجية مصارعة الثيران، فالأضاحي عندنا مقرونة بالصلاة كما في قوله تعالى : إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ، وحمل كثير من العلماء الآية على أن المراد صلاة العيد ونحر الأضحية. ومثله قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( الأنعام 163) وحمل النسك على أن من معانيه الأضحية وما في حكمها. ونحرها يجب أن يكون مع غاية الإحسان كما في الحديث: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ. وماذا بقي من معاني التكافل والتضامن الذي ترشد إليه الآية الكريمة من مثل قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ( الحج28) ثم ما الداعي إلى كل هذه التعبئة الاستثنائية لتوفير الأضاحي إلى الدرجة التي تدعو إلى الاقتراض الربوي، وهي كما يعلم الجميع لمن استطاع إليها سبيلا؟ بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خفف عن الجميع وذبح نيابة عنهم كما في الحديث عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلى بالناس يوم النحر فلما فرغ من خطبته وصلاته دعا بكبش فذبحه هو بنفسه وقال: باسم الله، الله أكبر اللهم عني وعمَّن لم يضح من أمتي... إنها مسؤولية العلماء مرة أخرى في البيان والنصح، وهو خلاصة الميثاق المشار إليه في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ (آل عمران187) فهل نطمع بأن نسمع بيانا صريحا لا لبس فيه بأن الأضاحي لا يجوز الاقتراض بالربا لتوفيرها تحت أي ضغط أو إكراه مزعوم. وإنها سنة من وجد لها سبيلا أحياها ومن لم يجد فلا تجب عليه.