بالأمس كان المغاربة ينفقون على حياتهم بقدر سعتهم ويستهلكون من زينة الدنيا وفق حاجاتهم وطاقاتهم، إلا أنه مع عصر التكنولوجيا وثورة الدعاية والإعلان واعتماد بعض المنتجين على الإغراء، ومن ذلك اللجوء إلى القمار لرفع وتيرة الاستهلاك، فضلا عن استلهام نموذج الاستهلاك الغربي البعيد عن قيمنا الإسلامية، صار المغربي ينفق على نفسه أكثر من حاجته وطاقته، وانقلب الضروري بالنسبة إليه إلى حاجي والحاجي إلى ضروري، ولم يجد بدا من الاستدانة من مؤسسات قروض الاستهلاك التي تنغص حياته وقد تقوده إلى المحاكم أو ترمي به في السجون.وتساهم الإعلانات بشكل كبيرفي الزج بالمغفلين لاقتراض ديون تثقل كاهلهم وتتضاعف نسبتها مع مرورالأيام، ويعيش المواطن في دوامة لا نهاية لها من الديون، وهذا ينعكس بشكل سلبي على وضعيته الاجتماعية والأسرية، وقد يؤدي تفاقم الديون إلى التفكك الأسري أو الانتحار. والمقبل على الديون الاستهلاكية يشعر في بداية الأمر بملذات الدنيا تتراءى أمامه وأنه يساير المستوى المادي لبعض أصدقائه وجيرانه، وما إن تمضي شهور حتى يتذوق مرارة إرجاع الديون وقد تضاعفت نسبتها. والمتأمل في حياة المغاربة المتورطين في القروض الاستهلاكية يدرك جيدا معنى الأمثال المغربية وفوائدها الكثيرة في المجال مثل: البس قدك يواتيك وهو بمثابة دعوة لأن يعيش الإنسان وفق مدخوله المادي أو المثل القائل: نرضع سني ونبات مهني، كناية على ضرورة الابتعاد عن الديون ولو اقتضى الأمر المبيت بلا عشاء. التجديد تفتح ملف قروض الاستهلاك وتأثيرها السلبي على الأسر المغربية. أحرجته الزيارات العائلية فأخذ قرضا لتجهيز منزله يصف محمد (رجل أمن) وضعه المادي بالمصيبة، لأنه بمجرد أن بدأ الاقتراض من المؤسسات الربوية لم يعد يعرف راحة البال ولا حلاوة العيش، يحكي عن بداية قصته مع الاقتراض قائلا: «عند زواجي اكتريت بيتا بسيطا ولم يكن مجهزا، فكنت عازما على أن أشتري آخر كل شهر بعضا من الأثاث إلى أن أكمل تجهيزه، غير أن الزيارات العائلية كانت تحرج زوجتي كثيرا ولم تعد تطيق أن تستقبل الضيوف والغرفة غير مجهزة بفراش جميل، فأخذت تحثني دوما على الاقتراض أسوة ببعض زملائي إلى أن لبيت رغبتها، وبدأت شركة لقروض الاستهلاك تقتطع من راتبي، ثم سرعان ما بدأ بعض معارفي ممن لهم وضع مادي غير قار يطلبون مني أن أقترض لهم بعض الأثاث المنزلي على أن يسددوا لي بعد ذلك، غير أنهم لم يلتزموا بوعدهم، مما أسقطني في ضائقة مادية، ولم أعد أقدرعلى تدبير مصاريف عيشي، فكلما جاءت أزمة مادية ألجأ للاقتراض»، وعما إذا كان محمد مرتاحا للوضع الذي يعيش فيه، يقول: «إن مسألة وجود مؤسسات لها استعداد دائم لتقرضك وتسعى بشتى وسائل الإشهار لإغرائك، تدفع بالسذج أمثالي للجوء إليهم مكرهين، خاصة إذا لم يجد أحدنا من يمد له يد العون في الأزمات الخانقة من قبيل المرض أو المناسبات، غير أنه عموما لا أشعر بالراحة، فأنا أعتبر أن اللجوء للاقتراض من المؤسسات الربوية مصيبة وجب على الجميع الابتعاد عنها، فعندما يصور الإشهار أن الرجل الذي يقترض سينام مرتاحا فإن العكس هو الذي يحصل». موظف مخمر أبقت له القروض من راتبه 250 درهما لم تكن نعيمة تظن أن زواجها بموظف له راتب لا بأس به سيوقعها في مشاكل مادية لا تنتهي، ولو عرفت حينها أن شريك حياتها سيلجأ للاقتراض من المؤسسات الربوية لفضلت أن تظل عانسا على أن تبدأ مشوار حياتها بقرض من البنك، ليليه قرض من مؤسسة لقروض الاستهلاك، ثم ليدخل الزوج في دوامة لا نهاية لها من الديون، تقول نعيمة والأسى يعلو محياها: «منذ زواجي وأنا أعيش إلى جانب زوجي في دوامة الديون، فما إن ينتهي من دين حتى يقترض آخر، ومرد ذلك هو حبه العيش في مستوى مادي أكبر من دخله، وينافس الأغنياء ويحب دوما الظهور أمام الناس بلباس باهظ الثمن»، أمام هذا الوضع كرهت نعيمة الاستمرار في هذا النمط من العيش، فلا تجد سوى الشجار والخصام حلا لعل زوجها يكف عن الاقتراض ويدير مصاريفه وفق راتبه، تقول نعيمة بسخط كبير: «لدينا ثلاثة أطفال، وكثيرا ما كنت أنصح زوجي في بداية زواجنا أن نعيش وفق مستوانا، لكنه لا ينصت إلي، وعندما يقع في أزمة مادية فإنه يدفعني للاقتراض من أهلي وهكذا...». زوج نعيمة موظف يتقاضى راتبا لا بأس به، غير أنه يحب دوما المباهاة، كما أن أصدقاء السوء هم من نصحوه باللجوء للاقتراض بشكل مسترسل من أجل جلسة الخمر والقمار، تقول ابنة نعيمة (14 سنة): «أنا لا أحب أبي لأنه يشرب الخمر ودائما يقترض المال لأجل ذلك، ونحن درسنا أن الربا حرام وشرب الخمر حرام، ولكن أبي لا يطبق من الإسلام شيئا». وتحكي نعيمة عن وضع زوجها المادي، بعدما رفض الحديث إلينا: «حالته المادية مزرية ولا تحتاج إلى وصف، فديونه أصبحت متراكمة، ويا ليته كان يلجأ للقروض الاستهلاكية من أجل الاستهلاك فقط، بل يتعدى ذلك، إذ يلجأ مثلا لشراء ثلاجة أو تلفزة فيبيعها بنصف الثمن لأن ما يهمه هو المال ولا تهمه الخسارة، والآن يتقاضى250 درهما فقط آخر كل شهر بفعل الاقتطاعات»، وتضيف نعيمة متأسفة: «لماذا يوجد في بلد مسلم ديون ربوية... كم مرة أفكر في فراق زوجي لأنني لم أشعر معه بالسعادة المادية ولا المعنوية، فكلما تذكرت الديون التي بذمته ضاقت بي الأرض وتمنيت الموت، ولله المشتكى»، ثم تستطرد والدمع ينهمر من عينيها: «لن أسامح الذين شجعوا زوجي على اللجوء للاقتراض»، ثم تختم كلامها بالقول: «أتمنى أن يأتي يوم يصحو فيه ضمير زوجي ويدرك جيدا أن الحرام لا يزيد الإنسان إلا ضيقا وتعاسة». الخبير الإعلامي يحى اليحياوي لالتجديد":اللوحات الإشهارية الخارجية تعبير عن واقع أزمة الطبقة المتوسطة وليست تحفيزا للاستهلاك يفسر الخبير الإعلامي المغربي الدكتور يحيى اليحياوي ما سماها بظاهرة اللوحات الإشهارية من خلال عدة عوامل، فيقول في هذا المضمار: «لو أردنا وضعها في سياقها العام لقلنا إنها جاءت (ضمن ظواهر أخرى) في سياق احتضار الطبقة الوسطى بالمغرب التي تلت برامج التقويم الهيكلي منذ ثمانينات القرن الماضي، والتي تم بمقتضاها (لاعتبارات سياسية تحديدا) الإطباق على هذه الطبقة، بالتالي فهذه اللوحات هي تعبير عن واقع أزمة هذه الطبقة وليست تحفيزا للاستهلاك الذي غالبا ما نلاحظه بالدول الرأسمالية، والذي يدخل في إطار الدورة الاقتصادية العادية»، ويتابع يحياوي بالقول إن «الظاهرة تدخل أيضا في سياق ما يمكن تسميته بإيديولوجيا الاستهلاك التي تنتهجها بعض المؤسسات، والتي تتوخى الدفع بنعرة الاستهلاك إلى حدودها القصوى، أي إلى درجة قد يغدو الاقتراض هدفا في حد ذاته أو وسيلة لتسديد اقتراضات بلغ أجل تسديدها، والخطير في هذه الإيديولوجيا يزيد يحياوي بالحديث هي أنها تتعامل مع الآني والحاضر فيغدوان استصدارا للمستقبل في إطار سلسلة من الاقتراض والتسديد لا يتراءى من أفق لها، والاعتقاد الرائج بخصوص هذه النقطة هو القول: أريد أن أعيش اليوم، ربي يتدبر ما سيأتي من أيام، وهذا أمر غير سليم إطلاقا لكونه غير عقلاني ولا يقيم اعتبارا لمسألة التدبير والتخطيط». ويضيف يحياوي في الاتجاه نفسه أن «هذه اللوحات لا تخلق الحاجة في حقيقة الأمر، بل تدعو لها بالإغراء البريء ظاهريا، لكنه موصل حتما إلى مستنقع غير مضمون العواقب، ومعنى هذا أن اللجوء للاقتراض على خلفية ما تبشر به هذه اللوحات ليس اختيارا طوعيا، بل هو إكراه قائم ناتج عن سياسات في توزيع مداخيل طبقية، غير عادلة وغير منصفة». ورغم أن الخبير الإعلامي يحياوي أعرب عن أنه ليس ضد اللوحات الإشهارية ولا ضد الخطاب التحفيزي الذي تقدمه بعض المؤسسات بغرض دفع الأفراد والجماعات إلى الاقتراض، إلا أنه صرح بأنه ضد «السلوك الابتزازي الذي يحكم خلفيتها، والذي يدفع الناس قسرا في بعض الأحيان لرهن مستقبلهم لسنين طويلة، ناهيك عن الارتهان الذي تمثله قروض السكن، والتي أضحت تلتهم خبز وحليب عائلات بأكملها». ويوضح يحيى اليحياوي أن مجال اللوحات الإشهارية الخارجية يظل غير محكوم بنص تشريعي أو منظم بقانون، وقال في هذا الإطار «لا أدري حقيقة من يحدد مواقع هذه اللوحات ولا مستوى الأسعار المطبق عليها، فهذا مجال بكر، يكتنفه الغموض ولا سبيل لضبطه إلا بنص واضح وصريح». وتساءل الخبير الإعلامي عن «معنى تحفيز موظفين مثلا (وهم الشريحة المقصودة عموما) على ارتهان ما تسنى لهم توفيره بعد تسديد مبلغ الكراء أو حصة قرض السكن؟، وأن تعيش في ظل أربعة قروض أو خمسة؟ وأن تلجأ للاقتراض بغرض التسديد؟ وأن يعيش المرء لمجرد الاستهلاك؟»، وقال في سياق ذلك: «هذه أسئلة لربما تدخل في باب آخر المفكر فيه من لدن القائمين على هذه اللوحات إشهارا وملكية»، ملفتا الانتباه إلى أن «ملاكي هذه المنابر هم لوبيات من مختلف الأطياف». ويرى اليحياوي أن المطلوب في هذا المنحى هو «ضرورة إعادة توزيع المداخيل ومصادر الثروة توزيعا عادلا، لذلك لن يكون الاقتراض سبيلا قسريا بل أداة من الأدوات الاقتصادية لتسريع وتيرة الرواج والإنتاج والاستهلاك»، وقال إنه «في غياب هذا وذاك ستبقى هذه اللوحات أدوات ابتزاز واستفزاز، وفخا منصوبا يجر المواطنين البسطاء إلى ارتهان حاضرهم على حساب المستقبل. إنجاز محمد أفزاز/ خديجة عليموسى