لا تزال حضارة الترشيد العلمانية الإمبريالية تُخضع الإنسان الغربي لأسوأ أنواع الإمبريالية التي سماها المسيري بـ الإمبريالية النفسية، وهي أن تحوِّل الذات البشرية نفسها إلى سوق تتسع حدوده بشكل دائم وتحل محل الأسواق الخارجية البرانية التي تم غزوها جميعاً (وهكذا يتحول الجواني إلى براني دائماً)، ويتم ذلك عن طريق ثورة التطلعات والتوقعات التي لا تنتهي، وعن طريق صناعة الأحلام: من إعلانات (يلعب الجنس دوراً أساسياً فيها)، إلى روايات (تصوغ للإنسان أحلامه وتطلعاته)، إلى أفلام (تحدد رؤاه وقواعد سلوكه)، وهي نشاطات يسيطر عليها ما نسميه قطاع صناعات اللذة في المجتمعات الحديثة التي تنظر للإنسان باعتباره مجموعة من الدوافع والحاجات الجسدية المحضة التي يمكن سدها. ومن ثم، فإن بوسع هذه الصناعات أن تَعد الإنسان دائماً بالفردوس الأرضي الذي سيريحه تماماً من عبء التاريخ وسيعود به إلى الحالة الجنينية، بل إن بناء المدن الغربية يُجسِّد هذه الرؤية الإمبريالية الرشيدة من طرقات تهدف إلى تعظيم السرعة لحركة يومية تُبَدد فيها الطاقة الإنسانية والطبيعية، ويُلوَث فيها الجو ويدور فيها كل شيء حول السوق والسلع. ليصبح الهدف من وجود الإنسان في الأرض ليس البحث عن الحق والخير والجمال أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما أن يدخل الإنسان حلقة الإنتاج والاستهلاك المفرغة، فينتج ليستهلك ويستهلك لينتج. تقوم الإمبريالية النفسية من خلال الإعلام بترويج صورة الإنسان الاقتصادي الجسماني، وهذا يتضح بجلاء في الإعلانات التليفزيونية، إذ تهاجم الإمبريالية النفسية الإنسان بكل شراسة، فالإعلانات التليفزيونية والفيديو كليبات والأفلام والملاهي واليانصيب والمسابقات، وتحاصر الإنسان العربي وتعيد صياغة أحلامه وتصعيد توقعاته، لإشاعة النموذج الاستهلاكي ولتطويع الجماهير وتدجينهم وتنميطهم، بحيث يجد الإنسان العادي (وغير العادي) نفسه مستبطنا لفكرة أن السعادة لن تتحقق إلا عن طريق الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك، فيتوحد تماما بالسلعة ويصبح إنسانا متسلعا ذا بعد واحد غارقا تماما في السلعة والمادة، وفي حالة غيبوبة إنسانية كاملة.(انظر عبد الوهاب المسيري الإعلام والإمبريالية النفسية ـ موقع الجزيرة ). إذ تحاول الحضارة الاستهلاكية العالمية قدر استطاعتها الانفصال عن التاريخ والزمان والمكان، لتطرح أشكالا حضارية متحررة، إنها حضارة العلم والتكنولوجيا المنفصلين عن القيمة باعتبار أنها تستند إلى رؤية للإنسان معادية في جوهرها للتاريخ والتراث. (عبد الوهاب المسيري، حضارة الهامبورغر والإنسان، موقع الجزيرة). يمكن القول بأن الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية هي رؤية مرتبطة بعصر التحديث والحداثة والثنائية الصلبة والمرجعية الكامنة، حيث جعل الإنسان الغربي من نفسه الأنا المقدَّسة ومركز الكمون والكون الذي يحق له إبادة الآخرين واستغلال العالم. ومع الستينيات بدأت الرؤية العلمانية الإمبريالية تأخذ شكلاً جديداً في عصر ما بعد الحداثة والسيولة الشاملة، وهي إنكار المركز تماماً وإعلان انتهاء التاريخ وانتهاء الإنسان واختفاء أية مرجعية، ومن ثم ظهر فكر ما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد. إن جوهر الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية هو تحويل البشر والعالم إلى مادة نافعة. وانطلاقاً من هذه الرؤية قام التشكيل الاستعماري الاستيطاني في الغرب بنقل ملايين البشر باعتبارهم مادة محضة تُوظَّف وتُسخَّر وتُنقَل وتُغزَى، حيث قام الإنسان الأبيض (وليس الإنسان ككل) بتأليه نفسه وصار مرجعية ذاته واحتل المركز، وقام بحوسلة الطبيعة وبقية البشر ، ومن ثم تحولت الرؤية المعرفية العلمانية إلى رؤية علمانية إمبريالية، ومن ثم فلا بد من اسـترجاع الإمبريالية كمقولة تحليلية باعتبارهـا جزءاً لا يتجزأ من الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية، إذ يصعب استبعادها من دراسة أية ظاهرة في الحضارة الغربية الحديثة.