يعيش الجنرال راي أوديرنو، قائد القوات الأمريكية في العراق حالة من الحيرة على ما يبدو، الأمر الذي تعكسه تصريحاته بين حين وآخر، لكن تلك التصريحات لا تخلو من رسائل سياسية من العبث تجاهلها، لا سيما أن السياسة في العراق وأفغانستان متروكة لجنرالات البنتاغون الذين وعد سيد البيت الأبيض بالاستماع جيدا لنصائحهم. آخر تصريحات الجنرال تبدو متشائمة إلى حد كبير، إذ قال بالنص: لست متأكدا مما إذا كنتم سترون أحدا يعلن النصر في العراق، لأنني في المقام الأول لست متأكدا أننا سنعلم ذلك خلال خمس أو عشر سنوات. كثيرة هي شكاوى الجنرال خلال الأسابيع الأخيرة، والتي تدفعه نحو مزيد من التشاؤم على ما يبدو، كما تدفعه إلى التحذير من مغبة التركيز على أفغانستان ونسيان العراق، فهو يشكو من الهجمات التي لا تزال تشنّ على المدنيين وعلى الحكومة العراقية، وتسعى إلى زعزعة العملية السياسية، كما يشكو مما أسماه الفساد المستشري داخل النظام العراقي، وليس فقط داخل قوات الأمن العراقية، والذي رأى فيه أكبر مشكلة تواجه العراق، إضافة إلى شكواه من التدخلات الإيرانية، ودعمها لبعض الجماعات المسلحة، فضلا عن تدخلها المباشر في العملية السياسية. لا شيء إذن يسير على ما يرام في عراق ما بعد الاحتلال، وبالتالي فإن الانسحاب الأمريكي الموعود يبدو حلما بعيد المنال، أعني الانسحاب الكامل، وهذه هي الرسالة الأساسية التي يبعث بها أوديرنو إلى الجميع، ومفادها أن الجدول الزمني للانسحاب لن يطبق بالضرورة، وإلا فما معنى قوله إن تقليص عدد قواته مرهون بتطورات الوضع الأمني؟ في العراق اليوم، ثمة من دون شك معركة بين إيرانوالولاياتالمتحدة (العرب غائبون مع الأسف)، وهي معركة تتجلى في ميدان السياسة بشكل واضح، أعني من خلال مراهنة واشنطن على تحالف المالكي ائتلاف دولة القانون، مقابل الائتلاف الشيعي الآخر، وهو وضع مثير للسخرية بالفعل، ويعكس الأزمة التي تعيشها، لا سيما أن من العبث الاعتقاد أن المالكي عدو لإيران. صحيح أن هذه الأخيرة كانت، وربما لا زالت، تراهن على دمج المالكي مع القوى الأخرى في الائتلاف الشيعي كي يكون قادرا على تحصيل الأغلبية والإبقاء على المأزق الأمريكي مقابل تأكيد النفوذ الإيراني، لكن فشلها في تحقيق هذا الهدف لا يعني أن نفوذها قد ضرب في مقتل، ليس فقط لأن المالكي لن يكون بوسعه إدارة الظهر لها حتى لو حصل على الكثير من الدعم الأمريكي، بل أيضا لأن القدرة الإيرانية على العبث بالملف الأمني وإرهاق مختلف الأطراف تبدو كبيرة، بل إن بوسعنا القول إن إيران لن تكون سعيدة بالانسحاب الأمريكي الذي سيفقدها عنصرا مهما في صراعها مع الولاياتالمتحدة فيما يتعلق بالملف النووي، إذ أن بقاء جنودها هو نقطة ضعف تبعا لقدرة الإيرانيين على استهدافهم في أي وقت. والحال أن المراهنة الأمريكية على الانتخابات القادمة من أجل ترتيب وضع سياسي مريح لن يتمتع بالنجاح على الأرجح بصرف النظر عن نتائج الانتخابات، فلا فوز المالكي سيريحها ولا فوز الائتلاف الشيعي المدعوم من إيران، لا سيما أن أكثر العرب السنة ما زالوا منحازين للمقاومة في وقت لا تمنحهم العملية السياسية حصة مقبولة من كعكة السلطة. ويكفي أن يتحالف المالكي مع قادة الصحوات كعنوان لزعامته الوطنية العابرة للطوائف سوى دلالة على بؤس الوضع برمته. ما يعنينا هنا أكثر من أي شيء آخر أن تصريحات أوديرنو تشكل دليلا على أن برنامج الانسحاب الأمريكي ليس نهائيا ولا محسوما، في ذات الوقت الذي تؤكد فيه على أن استقرار العراق لا يزال بعيدا رغم أوهام الديمقراطية المهزلة التي استخدمت وتستخدم لتجميل الوجه البشع للاحتلال.