لست ممن يستحب كثيرا الحديث عن مسألة التقاطب بين الجديد والقديم، أو المتقادم والمستحدث، في العلوم الإنسانية عموما، وفي مجال تاريخ التقنيات بالتحديد, وفي مجال الإعلام والاتصال على وجه الدقة, ليس فقط على اعتبار أن التقاطب إياه إنما يكون ذو طبيعة انطباعية صرفة, لا تقدم البحث كثيرا, ولكن أيضا لأنه غالبا ما يكون اختزالي التصور والمنحى, غير محكوم بخلفيات دقيقة. إن تاريخ تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال هو تاريخ تراكمي بامتياز، أي يرتكز اللاحق من بين ظهرانيه على السابق، ويكون له الامتداد في الزمن والمكان. كما أنه لم يثبت تاريخيا أن قوض مستجد تكنولوجي لاحق مستجدا سابقا عليه، إذ الإذاعة لم تقتل الصحافة الورقية، والتلفزة لم تقوض الإذاعة، والإنترنت بدوره لم ولن يقوضها جميعا, وهكذا. بالتالي, فليس صحيحا حقا القول بأن الشبكات الرقمية، والإنترنت تحديدا، هي التي ثوت خلف أزمة الصحافة الورقية، على الأقل من منطلق أن أزمة الصحافة, إنما هي أزمة سابقة على ظهور ذات الشبكات، ولم تعمد هذه الأخيرة إلا على تأجيجها وتعميقها. بمعنى أن أزمة انحسار المقروئية، وتراجع الإقبال على الجرائد سببه الجزئي، انفجار القنوات الفضائية، وأيضا بلوغ معظم الأسواق الإعلامية مرحلة من الإشباع، لم يعد معها من سبيل لضمان الربحية المطلوبة، خاصة مع تراجع منسوب الإعلان والإشهار. ثم إن الشبكات الرقمية، والإنترنيت على وجه الخصوص، قد عمقت ذات الأزمة، على اعتبار انتقال معظم الصحف الكبرى لركوب ناصيتها، والتقاط الإعلان عبرها، لدرجة ذهاب بعض الجرائد إلى حد التخلي نهائيا عن الصيغة الورقية, كما الحال مع جريدة كريستيان ساينس مونيتور الأمريكية. وسببها في ذلك إنما تراجع الطلب عليها، وتقلص منسوب الإعلان الموجه إليها، ففضلت الانتقال للشبكة تجاوزا على التكاليف، تطويرا لمبدأ القرب، حيث بإمكان المعلن أن يطلع بدقة على من يرى سلعه وخدماته، عكس الصيغة الورقية التي لا تمكن ذلك إلا نسبيا. بالنتيجة، فالإنترنيت لم يقوض الصحافة المكتوبة، لفائدة صحافة النت ، بقدر ما أسهم في إعادة النظر في طبيعة الحامل، وفي تموقع الصحيفة بإزاء قرائها والمعلنين عبرها، مع الإسهام في توسيع رواجها بكل جهات العالم، دونما تكاليف شحن، أو إكراهات جمركية، أو تعذر التوزيع هنا أو هناك. وهذه إيجابية أفادت الورقي أكثر ما أضرت به. وكائنة ما تكن الحوامل، ورقية أم إلكترونية أم بالصوت والصورة، أم بها مجتمعة، كما الحال مع الإنترنت، فإن الرسالة الإعلامية لم ولا تتغير. ووظيفة الإعلام الأساس، من إخبار وترفيه وتثقيف، تبقى هي المحك الأساسي. وعليه، فإذا لم تكن هذه الرسالة ذات مضمون مفيد ومطلوب، فإن الحامل لن يهم كثيرا، حتى وإن كان قويا قوة الشبكات الإلكترونية. إن هناك تلميحا مفاده أن مستقبل الصحافة موضوع على محك طفرة تكنولوجيا الإعلام والمعلومات، ليس فقط بسبب الشبكات الرقمية والإنترنت، ولكن أيضا بسبب اندماج الحوامل، وامتطاء المعلومات لأكثر من ناصية تقنية، وأتحدث تحديدا عن الأقمار الصناعية والهواتف الجوالة الممررة لكل أنواع وأشكال وأحجام المعلومات. أتصور أن التعامل مع هذا الطرح, يجب أن يحترم حدا أدنى من المسافة مع الظاهرة, على الأقل باعتبار أن المستجدات لا تقوض بعضها البعض، بل تكملها وتضيف إليها وظائف جديدة، ولنا أن نلاحظ كيف أن الإنترنيت مثلا و الويب حصرا، أضاف إمكانات لم تكن متاحة من خلال دمجه للمعطى والصوت والصورة. فالشبكات الإلكترونية تضمن الآنية، وتتيح سبل تحيين المعلومات، وتمنح منسوبا مرتفعا من التفاعلية، ورجع الصدى في التعليق والرد، لدرجة بدأ البعض يتحدث معها عن المستهلك المنتج للمعلومة بالآن ذاته. في المقابل، ولما كانت الأمور لم تستقر بعد، لأن التموجات لا تزال قائمة، وأجيال الإنترنت لم تتجسد كلها بعد، فإنه يتعذر الحكم بقطعية عمن ستكون له الغلبة بالمستقبل، الورقي أم الإلكتروني, سيما وأن الإحصاءات تبين أنه في العام 2008 مثلا، ارتفعت مبيعات الصحف اليومية بنسبة 1.3 في المائة في العالم، لتصل إلى 539 مليون نسخة يوميا، في حين أن الزيادة على أربعة أعوام, بلغت 8.8 في المائة. صحيح أن هذا التحسن تم تسجيله في إفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، وخاصة في الهند والصين، في حين تواصل التراجع في الولاياتالمتحدة وأوروبا، لكن المؤشرات لا تعبر بالمجمل عن أزمة جوهرية كبرى، أعني لا تعبر قطعا عن أزمة ما في هوية الصحافة الورقية. نفس الشيء يمكن أن يقال بالنسبة للإعلان, إذ تراجع بما نسبته 5 بالمائة في العام 2008, لكن الصحافة المكتوبة والمطبوعة تبقى وسيلة قوية للاعلانات, إذ أنها تجذب 37 في المائة من مجموعة الإعلانات, في مقابل 10 في المائة فقط للانترنت. أزعم مرة أخرى, بأن العبرة بالمضمون وبالمحتوى, وبهدف الرسالة الإعلامية. هي لربما العناصر التي سيتم الاحتكام إليها, للحسم في إشكالية ومستقبل الورقي والألكتروني بعالم الصحافة. أما في ما يتعلق بعلاقة الدولة بالموضوع وتحديدا فيما يخص مسألة الرقابة، فإنه من المستحيل معرفة ما يروج بحوالي 500 مليار من الصفحات المتاحة بالإنترنيت ناهيك عن الويب الخفي ، ولا يمكن تحقيقه كائنة ما تكن قوة الدولة، أو نجاعة مصالحها الاستخباراتية أو التجسسية أو ما سواها، ليس فقط بزاوية الاطلاع عليها، ولكن أيضا بزاوية تصنيف مضامينها وتصفيفها وترتيبها وهيكلتها وتخزينها, بغرض وضعها أمام صاحب القرار, أو الدارس أو المهتم. هذا أمر يتجاوز على الحواسيب والبرمجيات المعلوماتية، فما بالك بالجنس البشري المحدود القدرات، حتى بظل تفضيله من قبل الله تعالى على باقي الخلق. وإذا كان هذا الأمر صحيحا بالنسبة للدول الكبرى، بكل ما أوتيت من قوة وتفوق تكنولوجي، فكيف لدول عربية مثلا لا تملك من ذلك شيئا يذكر، ولا تزال تشتغل وفق منطق المراقبة المباشرة، والرقابة المعتمدة على التقارير الورقية البدائية؟ ثم هل ثمة من طريق لفرز الأهم من هذه المعلومات من المهم، الأفيد من المفيد؟ هذا أمر غير ممكن بالمرة، حتى بظل التعاون الدولي الذي نراه مثلا بناحية محاربة الإرهاب، أو محاولات الحد من الجريمة، بكل أشكالها الواقعية كما الافتراضية على حد سواء. من ناحية أخرى، نلاحظ أن العديد من المواقع بالإنترنت رفعت التحدي بوجه الدولة، وباتت قوة ضغط حقيقية بوجهها، وهو ما يمكن أن نلحظه ليس فقط بفضل التكاثر الغير مسبوق للمدونات، بل وأيضا بفضل مواقع اليوتوب و الفايس بوك و الماي سبايس ، وما سواها. وقد لاحظنا بالمغرب مثلا، كيف أن اليوتوب أحرج الدولة المغربية، ولا يزال يحرجها في ملفات الرشوة أو حقوق الإنسان, أو ما سواها. أتصور أن الحكومات العربية، ولربما أيضا كل حكومات العالم، أضحت عنصر المعادلة الأضعف. فلا قوانينها الداخلية, ولا تشريعاتها, ولا لوائحها بقادرة على صد أشكال الاحتجاج والعصيان والتشهير المبرر، الذي بدأت العديد من المواقع الافتراضية ترفعها بوجهها ليل نهار. إنها باتت مطالبة بإعادة النظر في هذه القوانين والتشريعات واللوائح، لتتماشى مع الوافد الجديد، وهذا أمر يتجاوزها، على اعتبار تعذر تقنين مضامين الشبكة، وضمان الحد الأدنى لحكامتها. هي مطالبة بتوسيع مجال الحريات، لتقول لهؤلاء بالجملة والتفصيل: ها هو بيتي من زجاج، وبالزجاج أتحصن، وهذا أمر لن تستطيعه الحكومات العربية، بحكم استعصائها على التحول والتغيير، بأرض الواقع، فما بالك أن تتحول بالأزمنة الافتراضية المتقدمة. للتوكيد على الغاية من هذا المقال, أقول مرة أخرى: أنا من رافعي طرح أن العبرة بالمضامين والمحتويات, لا بالأعتدة والأدوات. فالمضمون الجيد والرسالة الجيدة, تتجاوزان على الحامل, أيا تكن قوته ونجاعته وقدرته على الاختراق. هذا صحيح في اعتقادي إلى حد ما, لكن شريطة أن يتم إعمال مبدأ التفاعلية, وتمكين المتلقي من سبل التعليق والرد. هذا الجانب, جانب التفاعلية, متاح بالصحافة الألكترونية, لكنه غير قائم بما فيه الكفاية بالصحافة الورقية. ثم هناك جانب التحيين الذي للصحافة الألكترونية جانب السبق فيه, سيما فيما يتعلق بالأخبار المالية وأخبار البورصات والقضايا الاقتصادية الجارية. الصحافة الألكترونية لها سبق بهذا المجال, على الرغم من اعتماد العديد من الصحف الورقية على أكثر من طبعة في اليوم. إلى جانب كل ذلك، ما تزال إشكالية المجاني والمؤدى عنه مطروحة بقوة، بالصحافة الورقية كما بالإلكترونية، بمعنى أننا نجد الصيغتين معا بالورقي كما بالإلكتروني، لكن يبدو أن حجم الإعلان ومنسوبه, هو الذي سيحسم هذا الإشكال وإن بطريقة جزئية. إجمالا، أتصور أن المحك الحقيقي سيكون طبيعة الرسالة الإعلامية، ومدى قربها من حاجة المتلقي، وأيضا مستوى المهنية، كي لا أقول الأخلاقيات التي ستحكم هذين الرافدين. http://www.elyahyaoui.org