يبدو أن الوقف ما زال خاضعا لأنماط محدودة من التصرف لا تؤهله لأن ينخرط في النشاط الاقتصادي وفي الأداء الاجتماعي الذي يجعل منه عملا حضاريا متميزا يسهم في ترقية الإنسان وإعلاء مستواه المعرفي والاجتماعي، فلا زالت كثير من الحالات التي ترصد لها الأوقاف هي حالات اجتماعية تقتصر على مواجهة الفقر والعوز أو تغطي وظائف دينية محددة مثل توفير الموارد المالية لأجور القيمين الدينيين والقائمين على المؤسسات الدينية عموما. وتاريخ الوقف يسجل أنه نهض بوظائف حضارية أشمل، فقد نهض بمهمة نشر العلم وتركيز المعرفة في المجتمعات الإسلامية بما خصصه من أموال ضخمة لإحداث المكتبات العامة التي لا زالت محتوياتها نفائس وأعلاقا تفاخر بها الأمة وتشهد على المستوى العلمي للعالم المسلم، كما أن الوقف تكفل بنفقات طلاب العلم وبأجور الشيوخ المدرسين، فكانت بعض الأوقاف ترصد على تدريس علم خاص أو كتاب معين أو توجه للإنفاق على طلبة مدارس معينة أو على أساتذتها. وهذا كله يعني اهتمام الوقف بنشر المعرفة وتأسيس الحضارة وبإعلاء المستوى الفكري والثقافي لأفراد الأمة. .1 إن الوضع الحالي يقتضي أن يتوجه الوقف إلى توفير أسباب الارتقاء الحضاري ومنها: إنشاء الجامعات ومراكز البحوث والدراسات والمختبرات العلمية ودور النشر ومؤسسات الإعلام الجاد وما إلى ذلك من الساحات التي يقل فيها حاليا دعم الوقف ومساندته. .2 توسيع قاعدة الموقوفات استصحابا لتوسيع الفقه للموقوفات من وقف العقارات إلى المنقولات والأموال. فيوجه المسلمون إلى وقف الحقوق المعنوية والمنافع، فيقف الباحثون في المختبرات، والمخترعون براعات الاختراع وحقوق التأليف وكل الحقوق الفكرية على مشاريع علمية وبحثية يؤمل منها أن تخدم البحث العلمي في العالم الإسلامي وتشارك في التقليص من الأمراض والأوبئة التي يذهب ضحيتها أعداد من الناس. .3 إن ترشيد إنفاق الوقف يقتضي استحضار هذه الأهداف والغايات من جهة ويقتضي كذلك ترقية وسائل العمل فيتجاوز الوقف حدود الفعل الفردي إلى إنشاء مؤسسات تنهض بشؤونه وتعمل على استثمار إمكاناته المادية، لأن المؤسسات تستقطب من الخبرة والتجربة ما يجعلها قادرة على استشراف آفاق جديدة ومجالات حديثة للاستثمار والاستغلال. .4 إن الوضع يقتضي أيضا تسطير برامج للأولويات في مجال ما يجب أن يتوجه إليه الوقف وهذا يقتضي تشكيل لجن من العلماء والخبراء تحدد المجالات والأولويات وتوجه الواقفين إلى أحسن الوجوه وأكثرها نفعا. .5 في سبيل النهوض بالرسالة الحضارية التي اضطلع بها الوقف عبر تاريخه وفق المستجدات الاجتماعية الحديثة فإنه يتعين أن يجعل الوقف من أولويات انشغالاته الانخراط الجاد والقوي في عمليات تشكيل شخصية المسلم فينخرط في أنشطة المؤسسات الاجتماعية الحاضنة للأيتام ذكورا وإناثا ولذوي الاحتياجات الخاصة وللأطفال المتشردين وللنساء في وضعية صعبة فيكون تدخله بالإعانة على تسيير تلك المؤسسات ودعمها ماديا وأدبيا، فيساعد على توفير متطلبات العيش الكريم والإقامة المناسبة على المستوى المادي وعلى المستوى التربوي التأهيلي، وذلك بالتكفل بأجور مربين مختصين مدركين لأهمية عملهم فيتولون تعويض دور الآباء والأسر من أجل صون الهوية وحمايتها من الضياع وفي اعتناء الوقف بالجانب الإنساني لنزلاء المؤسسات الاجتماعية ما يقيهم من الارتماء في أحضان المنظمات الأجنبية التي تشتغل على استقطابهم وضمهم إلى مشروعها المناهض للإسلام ولهوية الأمة. وما لا شك فيه أن مؤسسة الوقف التي هي الرافد الدائم للعلم الشرعي وللفعل الإحساني قد تعرضت لحملات التشويه التي عملت على إخراجها من حركة المجتمع. وقد ركزت بعض تلك الحملات التي اتخذت صبغة دراسات علمية على الممارسات الخاطئة وعلى التصرفات الشائنة لبعض متولي الوقف كما ركزت على حالة الإهمال التي تعرض لها العقار الوقفي مما جعل بعضه نقطا سوداء في المدن الحديثة.58 وفي هذا الوضع فإن الموقف يقتضي الاشتغال على المستوى الفكري والثقافي من أجل بث الوعي الصحيح بأهمية الوقف وبرسالته ومن أجل استبعاد المظالم التي انصبت على الوقف. وهذا ما يفرض وضع برنامج متكامل يتوجه إلى المثقفين وإلى أصحاب القرار الإعماري والإداري وإلى الفاعلين الاقتصاديين وإلى المستثمرين من أجل رسم صورة جيدة للوقف في ماضيه الزاهر وفي مستقبله الواعد. ويمكن اعتماد الخطوات التالية: - رصد الإنجازات العلمية والاجتماعية التي حققها الوقف من خلال احتضانه لمعاهد العلم وللمكتبات وللمؤسسات الاجتماعية الراعية للأيتام والعجزة والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة. - وضع كشاف عام لمصطلحات الوقف معززة بالشروح الضرورية لمضامينها الفقهية والعمرانية والاقتصادية وتعميمها على كل الجهات ذات الصلة. - العمل على استحداث كراسي علمية لتدريس ما يتعلق بالوقف فقها وحضارة على مستويات مدارس تكوين المهندسين ورجال السلطة وتخريج العدول والقضاة والموثقين وعلى مستويات الدراسات العليا في كلية الحقوق. - إعادة طبع الكتب الفقهية المتخصصة في فقه الوقف مما سبق إخراجه غير موثق ومجردا عن الكشافات الفنية من مثل كتاب الإسعاف في أحكام الأوقاف لإبراهيم بن موسى الطرابلسي الذي طبع بمصر سنة هـ وكتاب أحكام الوقف لهلال بن يحيى البصري الذي طبع بحيدر آباد هـ وغير هذين الكتابين من الكتب التي تقصتها دراسات متخصصة منها الكشاف الذي وضعه الباحث سامي التوني وطبعته الأمانة العامة للأوقاف وهو مفيد في بابه. - التحفيز على إنجاز بحوث وأطاريح علمية تتناول الوقف في مستواه النظري وفي واقعه المحلي وتقترح أساليب للمحافظة عليه ولتنميته وتطويره. - التشجيع على طبع الدراسات المنجزة عن الوقف عموما وعن الوقف في صيغه الحديثة خصوصا، وتعميم ذلك على مؤسسات المهتمة وعلى المؤسسات المجتمع المدني المشتغلة في الحقل الاجتماعي الإحساني، للفت نظرها إلى أهمية إحداث الأوقاف لاستدامة الفعل الاجتماعي. - إنشاء جائزة عالمية للوقف تمنح لأحسن مشروع وقفي حضاري يؤسس في أي بلد إسلامي. - تنظيم ندوات على الوقف في كل الدول الإسلامية من أجل إعادة ثقافة الوقف إلى وعي الأمة.