كيف فكر العقل المسلم في الجانب المتغير من البنية النظرية للاقتصاد الإسلامي، أي الجانب العملي؟ وما هي هذه الملامح العملية التطبيقية التي فصلها؟ في بيانه للجانب المتغير من الاقتصاد الإسلامي، يشير د.محمد شوقي الفنجري إلى النقط التالية: 1 - بيان مقدار الكفاية أي المستوى اللائق للمعيشة، مما يختلف باختلاف الزمان والمكان، والذي تلتزم الدولة الإسلامية بتوفيره لكل مواطن فيها متى عجز أن يوفره لنفسه لسبب خارج عن إرادته كمرض أو عجز أو شيخوخة. 2 - إجراءات تحقيق عدالة التوزيع، وحفظ التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع، وتقريب الفوارق بينهم. 3 - إجراءات تحقيق كفاية الإنتاج، والتخطيط الاقتصادي، ومتابعة تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية. 4 - بيان العمليات التي توصف بأنها ربا، وصور الفائدة المحرمة، وتهيئة الوسائل المشروعة للمعاملات المالية بين أفراد المجتمع. 5 - بيان نطاق الملكية العامة، ومدى تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي؛. ص 23 و.24 هذه خلاصة جد مركزة، لكنها مستوعبة لما قدمه د.الفنجري كنقط عملية في النظام الاقتصادي الإسلامي، أي تلك النقط التي ينبغي أن تكون محل تغيير وتجديد دائمين بحسب تغير الواقع وتبدل مستجداته. لكن لابد هنا من استفهام: هل تكفي هذه النقط الخمس لاستيعاب تعقيد الظاهرة الاقتصادية، وملاحقة إيقاع تسارعها وتنوع أوضاعها؟ إن التأمل في النقط السابقة يدفعنا إلى القول بأنها لا تختلف في شيء عن المبادئ التنظيرية التي أدرجها د.الفنجري سابقا ضمن ما سماه بماهية الاقتصاد الإسلامي. فتنظيره هذا للجانب المتغير التطبيقي هو نفسه يفتقر إلى سمت الإجرائية، حيث إنه أقرب إلى المذهبية النظرية العامة منه إلى الإجراء بمدلوله التطبيقي. لذا نقول: إن العقل الاقتصادي الإسلامي المعاصر، لا يزال يشتغل بعقلية التنظير، ولم ينزل من سماء التجريد إلى مقاربة إشكالات واقعية دقيقة وجزئية. فالأصول المبدئية التي قدمها، مهما كانت قيمتها، تظل في مستوى التنظير، ومعلوم أن الاقتصاد هو في النهاية علم إدارة الموارد داخل نسق من العلاقات المجتمعية، لذا يدرك العقل الاقتصادي بأنه لا بد من الانتقال من خطاب التنظير إلى الأجرأة الفعلية للمبادئ والرؤى التي يثمرها النظر، مع الانتباه إلى وجوب امتحان تلك الرؤى داخل الواقع للرجوع إليها سواء بالتصويب أو التبديل. وقد تنبه العقل المسلم إلى الحاجة إلى تنزيل النظرية الاقتصادية إلى الواقع بأجرأة مبادئها. لكن رغم ذلك ظلت هذه الأجرأة محدودة جدا. فرغم اتجاه بعض الدول الإسلامية نحو التطبيق العملي لبعض مبادئ الاقتصاد الإسلامي، فإنه بالنظر إلى طبيعة الواقع الاقتصادي اليوم، الذي ليس واقع اقتصاديات مغلقة، بل مفتوحة دوليا، ومترابطة على نحو نسيجي، فإنه يستعصي تأسيس واقع اقتصادي إسلامي منفصل عن واقع الاقتصاديات الدولية، انفصالا تاما. كما أن ارتباط هذه الاقتصاديات لا يعني مجرد تبادل علاقات ومصالح، بل هو اندراج داخل بنية، وخضوع لما يحكمها من مبادئ ونظم. لذا ندرك أن انتقال النظرية الاقتصادية الإسلامية من مستوى التنظير والتقعيد إلى مستوى الأجرأة والعمل معاق بأكثر من شرط واقعي. لكن على الرغم من استعصاء هذا التطبيق العملي لنظرية الاقتصاد الإسلامي، فإن النصف الثاني من القرن العشرين شهد العديد من التجارب التي تنحو نحو أجرأة تلك النظرية، إن لم يكن على مستوى النموذج الاقتصادي بأكمله، فإنها على الأقل استطاعت أجرأته على مستوى النظام المالي. لذا نشهد راهنا ثمار هذه الأجرأة حتى خارج الدول الإسلامية. فبناء على إحصائية نهاية عام 2005 هناك ما يزيد على 300 مؤسسة مالية واقتصادية كبرى تدير أصولا تقدر بحوالي سبعمائة بليون إلى واحد ترليون دولار أميركي وفق الأصول المبدئية للشريعة الإسلامية. هذا بصرف النظر عن رأينا في تعليل سبب توجه المؤسسات المالية الدولية إلى إدخال المعاملات المالية الإسلامية ضمن بنية نظامها، هل هو نابع من اقتناع بفعالية الاقتصاد الإسلامي، أم إنه فقط وسيلة لاستقطاب الرأسمال الإسلامي . فمعلوم أن مصرف سيتي بنك مثلا يحتوي -حسب قول أحد الناقدين الغربيين للاقتصاد الإسلامي دانيال بايبس- على +ودائع متوافقة مع الشريعة الإسلامية بكميات أكبر مما تحوي البنوك والمصارف الإسلامية؛!.