شكل حدث انتصار المقاومة الفلسطينية بغزة وصمودها الأسطوري وصلابة إرادة الشعب الفلسطيني تطوراً نوعياً ذا دلالات هامة في تاريخ الصراع بين مشروع المقاومة والتحرر والممانعة وبين المشروع الصهيوأمريكي الهادف لاجتثات المقاومة وكسر إرادة الشعب الفلسطيني وفرض الهيمنة الصهيونية على المنطقة بأكملها، دشنت فيها المقاومة انطلاق مرحلة جديدة من تاريخ الأمة، مرحلة انبعاث واستنهاض في مواجهة سياسات الحصار والإبادة والاحتلال، والمؤشرات على ذلك متعددة، منها أن حالة العداء والرفض لما هو أمريكي وصهيوني بلغت أعلى مستوياتها في التاريخ المعاصر، كما أن عددا من النخب الحاكمة والقيادات السياسية شرعت في مراجعة علاقاتها بشعوبها، وأيضا تراجعت الأصوات التطبيعية أمام الإجماع الشعبي على فضح المطبعين ومناهضته وتجميد جهود التطبيع غير الرسمي، كما استعادت القضية الفلسطينية عمقها الاستراتيجي والشعبي، فالمقاومة صنعت مشهدا مغايرا سيشكل منعطفا مفصليا في التاريخ السياسي والعسكري للمنطقة والأمة بأكملها. لقد أبانت التحركات والتظاهرات الجماهيرية العربية والإسلامية والعالمية المساندة للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة عن عمق وحدة الأمة في القضايا المصيرية، كما أكدت تفاعل أحرار العالم مع قضايانا العادلة، الأمر الذي ينبغي التأسيس عليه من أجل بناء حركة مقاومة جماهيرية لمواجهة التحديات في اتجاه صياغة برنامج حقيقي يخرج الأمة كلها من حالة الانتظار والترقب المزدوج؛ أمام الدرجة العالية من التخاذل والتواطؤ على مستوى الحكام، والبدء في الإعداد لمرحلة المواجهة الشاملة، حيث تحتشد الأمة بكامل طاقاتها الشعبية والرسمية حول المقاومة ومواقع الممانعة في المنطقة، انطلاقا من وحدة المعركة ووحدة العدو ووحدة المصير والقضية والمقاومة باعتبارها حالة ثقافية ونفسية واجتماعية ذات عمق كفاحي مستمر وخلفية مدركة لأبعاد وطبيعة المشروع الاستعماري الجديد، وروحا تسري في الأمة وليست حالة عسكرية فقط. والسؤال المشروع هو كيف أمكن للمقاومة أن تنجز ذلك وهي التي لا تملك ميزان قوى يسعفها بتحقيق ما حققته؟ إن مقولة القوى العسكري لا تفسر كل شيء في الصراعات المسلحة، ذلك أن شعبا يملك قضية ويحقق التعبئة الضرورية من أجل الدفاع عنها، يملك بالتالي أن ينجز هدف الانتصار على محتل ينفذ أمرا عسكريا يوميا! هكذا يقول تاريخ الصراعات الكبرى: تكسب الشعوب معركتها حين تؤمن بها، أي بعد أن تحسن موقعها في ميزان الإرادات، فتنتصر إرادة المقاومة على إرادة الاحتلال. لعل الغائب الأكبر في التفكير الاستراتيجي المعاصر المتبني لمقولة ميزان القوى هو مفهوم ميزان الإرادات كمفهوم غير قابل للقياس، يلفت الانتباه إلى عوامل أخرى غير تقنية وغير مادية في تفسير ظاهرة انتصار القوى الضعيفة في ميزان الصراع، وهي عوامل قد لا تكون دائما مادية، حتى وإن كانت نتائجها مادية بالضرورة، لكنه يكشف عند التنـزيل المادي له عن قابلية مذهلة لتغيير معطيات الواقع. ومن ناحية أخرى، أحرج صمود حماس وشعب غزة الأبي النظم العربية التي تخلت واستقالت، بما فيها النظم المتاجرة بالقومية، عن التفكير في أية رؤية إستراتيجية أو تخطيط لاسترجاع الأراضي المحتلة، أو تأكيد حقوق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة، منذ انهيار محادثات جنيف عام ,2000 وأصبحت تنتظر ابتلاع إسرائيل وتهويدها لما احتلته من الأرض العربية، وأذهل شعب غزة العالم بأسره بقلب ميزان القوى إلى ميزان الإرادات الصلبة التي تكسرت عليها أعتى همجية في التاريخ المعاصر، وأثبت المقاوم الفلسطيني رغم إمكانياته المتواضعة، أنه على درجة عالية من الإيمان الكبير، والعقيدة المخلصة في الجهاد، والروح المعنوية العالية القادرة على هزيمة الكيان الغاصب وإرباك حساباته، وهذا ما أكده الفشل الذريع للاحتلال الصهيوني في التصدي للصواريخ الفلسطينية، وتحديد مواقع إطلاق القذائف بدقة، وإخفاقه في تجريد حماس وحلفائها من القدرة على إطلاق الصواريخ، وليس مجرد وقف إطلاقها فحسب، عدا نجاحه في التوظيف الوحشي لأحدث أدوات الإبادة الأمريكية في القصف والتدمير وتقتيل الأطفال، بما يمثل هزيمة وفضيحة خلقية وإنسانية مثلت أكبر صدمة للضمير الإنساني، ومع ذلك ففي ظل القصف الرهيب والصمود العجيب بدأت تتشكل معالم جديدة لمشروع التحرير الفلسطيني بقيادة حماس، وكذا معالم عالم عربي جديد بقيادة معسكر المقاومة والممانعة في مواجهة قوى الاستسلام والتطبيع والتواطؤ مع المشروع الصهيوني. ومهما تكن الحصيلة الدموية الفادحة لما حدث ضد قطاع غزة، فالذي ثبت هو أن كسر إرادة المقاومة الفلسطينية، التنظيمية والشعبية، بات أمرا مستحيلا باعتراف كبار العسكريين الإسرائيليين، واضطرار الكيان الصهيوني وقف عدوانه وإعلانا عن الانسحاب من غزة بدون شروط. وفي الأخير، ليست حماس ولا قوى المقاومة وحدها التي ربحت من هذه الحرب، بل القضية برمتها، والسبب هو الشرعية التي حصل عليها نضال الفلسطينيين أمام العالم ، إضافة إلى الشرعية التي حصل عليها برنامج المقاومة الوحيد القادر على تحقيق الإنجازات. وإن كان من درس تقدمه المقاومة الفلسطينية وقبلها اللبنانية اليوم للفكر الاستراتيجي فهو أن الاحتفال بعوامل القوة المادية لتفسير القوة المادية ليس دائما مدخلا ملائما لفهم ظواهر مثيرة من نوع نجاح بضعة آلاف من المقاومين المسلحين بأكثر الأسلحة تأخرا وبدائية في تمريغ هيبة واحد من أكبر جيوش العالم عدة وعتادا وعددا وهذا ما أكده بعمق الأستاذ عبد الإله بلقزيز في تحليلاته. إننا بصدد تجربة جديدة ومكثفة عز مثيلها في التاريخ الحديث كله، ألغت من حسابها الخوف من قوة الكيان الصهيوني العسكرية، وتدخل في حسابات العدو الخوف من دروس انتصار المقاومة وما قد يأتي به من تيارات الوعي والثقة الذاتية والتماسك بوجه حرب ضارية تقودها أمريكا وإسرائيل والصهيونية العالمية، فكان صمود المقاومة في وجهها هو الانتصار بعينه مع حفظ الحقوق الوطنية وعدم التفريط فيها. لقد أظهرت الحرب على غزة صوابية منطق المقاومة في مقابل عقم منطق الاستسلام وأوهام التعايش والمفاوضات، وحققت نصرا استراتيجيا وتاريخيا، مؤكدة من جديد إمكانية الانتصار إذا توفرت الإرادة وإذا امتزج العقل مع الإيمان بالقضية، أي ما أنجزه العقل من تدريب عال وتصنيع ذاتي وما حققه الإيمان من استبسال في القتال حتى الشهادة. ومن ثم، على الأمة بعد انتصار المقاومة في لبنان 2006 وفي غزة 2009 أن تعيد برمجة حساباتها على أسس أخرى، فقد ولى زمن الهزائم، وآن لنا أن نتنفس هواء الحرية والكرامة والانتصار، وآن الأوان- حسب المفكر عزمي بشارة- أن تفكر حماس والجهاد والجبهة وغيرهم من طاقات وقوى الشعب الفلسطيني بتشكيل إطار تحرر وطني موحد مقاوم في كافة أماكن حضور الشعب الفلسطيني، يحمل برنامجا وخطابا مؤهلا لقيادة الشعب الفلسطيني، فوجود هذا الإطار وهذا الخطاب هو الذي سوف يشكل القوة الضاغطة والرافعة لإعادة بناء منظمة التحرير، ومع ذلك نشير أن الحرب لم تنته رغم توقف العدوان، فبعدما فشلت إسرائيل في القضاء على المقاومة وإسكات صواريخها، ستلجأ إلى محاولة تعجيزها وتجفيف منابع قوتها وخنقها، من خلال منع تهريب السلاح إلى غزة، في سعي لتأجيل الضربة القاضية والتمهيد لجولات أخرى من المواجهة. باحث في العلوم السياسية