في ظل تصاعد التطورات الميدانية ودخولها منعطفاً حادا، بعد عمليات القصف المركز الأخيرة لكتائب القسام، وما أحدثه هذا القصف من صدى كبير داخل الكيان نظراً للخسائر المادية التي أوقعها، ثم إعلان القسام عن عمليته (بقعة الزيت) وتطبيق تهديده بتصعيد عمليات القصف وتوسيع مداها في حال استمر العدوان الصهيوني، فما يمكن إدراكه هو أن هذا العدوان بحجم العتاد المرصود له وقوة ضرباته ونوعية أهدافه يسعى إلى تحقيق أهداف سياسية إستراتيجية وإحداث تغيير سياسي في المنطقة، يتوخى قلب الأوضاع في غزة لكي تعود إلى بيت الطاعة الصهيو-أمريكية. فإسرائيل تهدف من خلال حربها الإبادية على غزة تحقيق الأهداف التالية: 1- عزل قوى المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس، ومحاولة شلها في سعي لإفشالها والقضاء عليها، واستنـزاف المقاومة الفلسطينية بشقيها المادي والمعنوي وإضعاف البنية العسكرية واللوجستية لها، بعد يأس الصهاينة من طول صمودها وصبرها، وقدرتها المتدرجة على تفكيك الحصار المضروب عليها، فالكيان الصهيوني يهدف لإحداث نوع من الضغط الخارجي والداخلي عبر الضغط العسكري، وتصعيب حياة الفلسطينيين لتأليبهم على حماس، فهو يسعى لوضع حماس فيما يسمى في الأدبيات العسكرية بالانهيار الإدراكي أي تنهار حماس دون معركة ميدانية في القطاع أو بالانهيار الميداني أي تنهار حماس بعد أن تدخل إسرائيل إلى القطاع. 2- توجيه ضربة قاصمة للبنية التحتية للمقاومة، وإعادة رسم خارطة قطاع غزة بما يؤدي إلى تقسيمها وشل قدرة المقاومة على تهديد المدن الإسرائيلية، في سعي لإيجاد منطقة أمنية واسعة تحول دون تعرضها مستقبلا لقصف الصواريخ محلية الصنع التي لا تملك إسرائيل إزائها أي حل. 3- التدمير المنهجي لموارد الشعب الفلسطيني ومقدراته وبنيته التحتية، تأزيما للواقع الداخلي من خلال الضغط على حياة الناس وحاجاتهم الأساسية وفرض عزلة محكمة على المقاومة داخليا ومعاقبة جمهور المقاومة ومؤيديها وأنصارها، بهدف كسر إرادة الفلسطينيين في رسالة لهم بأنه ثمة ثمنا باهظا جدا يمكن دفعه جراء عمليات المقاومة ضد العدو الصهيوني، وهذا ما لوحظ من خلال استهداف البنـى التحتية لغزة ومنازل المدنيين والمساجد وإغلاق المعابر. 4- إبراز قوة الردع الصهيونية وترميم هيبة الجيش الصهيوني المهزومة في حرب لبنان 2006 في محاولة لاستعادة زمام المبادرة المفقودة والتغطية على نتائج الفشل الأمني والعسكري من خلال عملية واسعة، لإستعادة سمعة الردع لدى الجيش الإسرائيلي وتأكيدا على أن زمام المبادرة وخانة الفعل العسكري لازال بيد الكيان الصهيوني و جيشه الذي لا يقهر . 5- فرض مشاريع سياسية وعسكرية وأمنية وحتى اقتصادية واجتماعية جديدة، لتغيير الوضع القائم وإعادة رسم الخريطة السياسية من خلال إسقاط حكومة حماس وفرض واقع عسكري جديد على الحدود الشماليةلفلسطينالمحتلة، كما أن إسرائيل تريد أن تكريس الانقسام الفلسطيني وخلق نموذجين، الأول في الضفة والآخر في غزة، وكأنها تريد أن توصل رسالة أخرى إلى كل من ينظر إلى مأساة غزة، أن إسرائيل لا تعادي الفلسطينيين، وإنما تعادي جزءا منهم لا يرغب بالسلام. حيث تظل حالة الانقسام تشكل تهديدا استراتيجيا لمستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته، المقصد منها الاستمرار في إنهاك الوضع الفلسطيني، باستمرار الانقسام وتكريسه. معالم المشروع الصهيوأمريكي تبرز معالم الخطة التي وضعتها الإدارة الأمريكية للتخلص من المقاومة ومن نقطة التوتر بالنسبة لها غزة على محورين: الأول: بالقوة الصلبة أي القوة المسلحة من خلال دعم آلة الحرب الإسرائيلية بل والضغط عليها لرفض وقف إطلاق النار وتمديد المعارك و سحق المقاومة من خلال اقتلاع النقاط الصعبة في المنطقة. والثاني: بالقوة الناعمة من خلال التحالف مع أنظمة الحكم العربية المؤيدة للسلام مع إسرائيل والمتحالفة مع واشنطن لكي تساعد في لجم المقاومة وتجفيف الينابيع حولها. ما يراد لمنطقة الشرق الأوسط أن تكون بدون أدنى مقاومة للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، أي منطقة بدون حركات المقاومة في فلسطينالمحتلة، وبدون حزب الله، وبدون سوريا، وبدون إيران، وبدون أي أطروحة مقاومة أو تيار سياسي قادر على الممانعة ، منطقة لا توجد فيها أدنى إعاقة للمصالح الأمريكية. يبدو أن الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، أضحى شرق الأزمات بعد ما يسمى بالحرب على الإرهاب وتورط الولاياتالمتحدة في ملفات المنطقة أمام تغيرات من الصعب التنبؤ بها، ولكن يمكن تلمس واستشعار تبعاتها المستقبلية، وفي الواقع فإن القضية الفلسطينية والصراع على الجبهة الفلسطينية الصهيونية وموازين القوى الداخلية الفلسطينية هي الساحة المؤهلة لهذه التغيرات أكثر من غيرها، وهي ليست بمعزل من أحداث وتطورات الموقف في الشرق الأوسط وبالأخص في الهلال الممتد من باكستان مرورا بإيران والعراق وسوريا انتهاء بدولة الكيان والأراضي المحتلة نظرا لتشابك العلاقات وترابط الأحداث ووجود دول مثل الولاياتالمتحدة له علاقة بشكل أو آخر بجميع ملفات المنطقة وبصورة أقل وضوحا على دولة الكيان الصهيوني. فالمشروع الأمريكي الصهيوني الذي يقوم علي فكرة وضع نهاية للمقاومة يواجه الآن باحتمال مختلف هو تعميم ثقافة المقاومة، بما يعني سقوط كل الرهانات الأمريكية مجددا وتأكيد حقيقة مهمة هو أن الشرق الأوسط وتحديدا غزة ولبنان بات متخصصا في إفشال المشاريع الأمريكية. حظوظ نجاح الهجمة إن محاولة قراءة المشهد السياسي والعسكري يستشف منه، أن العدو الصهيوني لم يستطع تحقيق أي هدف من أهدافه الإستراتيجية الكبرى، سوى تدمير البنى التحتية واستهداف المدنيين من خلال استخدام تفوقه الجوي، كما أن حماس حركة باتت عصية على الاستئصال، والقضاء عليها بات أمراً أقرب ما يكون من المستحيل، ليس لاعتبارات عسكرية قتالية فقط، بل لأن الحركة تجذرت في الواقع الفلسطيني، وليس عبر ضربة هنا أو اغتيال هناك، يتم إلغاء تاريخ كامل يمتد لعقود من السنين، ولا ننسى الثمن الباهظ الذي سيدفعه الجيش الإسرائيلي في المواجهة مع المقاومة، وحجم الخسائر البشرية والمادية التي تدفعها المستوطنات المحيطة بقطاع غزة، سديروت وعسقلان ونتيفوت تحديداً، وحجم الرعب النفسي التي تسببه صواريخ المقاومة، ليس بالضرورة أن تكون إسرائيل قادرة على تحمل أعبائها، فالمجتمع الإسرائيلي يفتقر لإرادة التحدي والصمود التي يتقنها الفلسطينيون بجدارة وامتياز. ومن جهة أخرى، فإسرائيل تمتحن في هذه الضربة إرادة الدول العربية، لترى أين وصل حدود تراجع تضامنها مع القضية الفلسطينية، وهي أيضا تستبق استلام الرئيس الأمريكي السلطة في واشنطن بوضع قواعد للعبة في المنطقة تظهرها بوصفها اللاعب الوحيد والقادر، وأنه لا يوجد للعالم الإسلامي وزن وليس هناك أي ضرورة لأخذهم بالاعتبار في تحديد سياسات واشنطن المقبلة في الشرق الأوسط، وهي تمتحن أيضا قوة اتفاق الشراكة المعززة الذي وقعته في 16 من الشهر الجاري مع أوروبا، وتحولت بموجبه إلى ما يشبه العضو الكامل في الاتحاد الأوروبي، وهو ينص على التعاون والحوار والتفاهم في مسائل عديدة ومنها المسائل الأمنية. من ناحية أخرى، ركزت الصحف الإسرائيلية على استدعاء 6700 جندي من قوات الاحتياط تمهيدا لنشرهم على الحدود مع غزة تحسبا لأي عمليات انتقامية من قبل حماس، وأشارت التحليلات إلى أن استدعاء الاحتياط يعزز تصريحات أولمرت بأن العملية العسكرية على غزة قد تستغرق وقتا أطول، كما تعزز تصريحات سابقة لوزير الدفاع إيهود باراك بأن العملية قد تتحول إلى اجتياح بري واغتيالات لقادة حماس، فبعد تكثيف القصف الجوي من الوارد أن ينتقل الكيان الصهيوني إلى خيار القيام باجتياحات برية هامشية على أطراف المدن، رغم أن هذا لا يحقق هدف التغيير الجذري للوضع القائم، بل يمكن من استكتشاف قدرة المقاومة القتالية والتسليحية وتجنب مفاجآتها، أما الخيار الآخر المطروح فهو الاجتياح البري العسكري الشامل للقطاع، وهو خيار محفوف بالمخاطر بسبب القدرة العسكرية التكتيكية الضعيفة، لأي جيش نظامي في قطاع غزة وذلك يرجع للازدحام السكني والسكاني، بينما في المقابل تتنامى القدرة التكتيكية للمقاومة على المواجهة، فاجتياح قطاع غزة لا يضمن لإسرائيل هدوء وضبط القطاع، على الرغم من أنه من الممكن السيطرة على مسألة إطلاق الصواريخ، ولكن إسرائيل بقيت في قطاع غزة حوالي 39 عاما، ولم تستطع القضاء على المقاومة، فهل ستستطيع القضاء عليها خلال عدة أشهر من الاحتلال؟ إنها تعي تماما أن المقاومة الفلسطينية ليست مجرد عدد محدود من الأفراد، بل هي مقاومة ممتدة في العمق الشعبي والجماهيري. وفي نفس السياق، تعد عملية غزة الأكبر من نوعها منذ عام 1967 وتبدو فرصة سياسية لباراك قبيل الانتخابات المقبلة في فبراير، أما أولمرت فيراه المراقبون يتحدث بنبرة أكثر تواضعا وواقعية عن نبرته التي تحدث بها عشية حرب تموز صيف عام 2006، وتبقى الخيارات العسكرية عبارة عن مغامرة مفتوحة على مختلف الاحتمالات، ولا يوجد ما يجعل إسرائيل متأكدة من الانتصار والحسم النهائي، وتغيير الأوضاع في القطاع وفق مقاسها وهواها. في النهاية يمكن القول، إن ما تشهده المنطقة العربية والإسلامية هو مقدمة دورة استعمارية جديدة، تستهدف إعادة صياغة أنظمتها وسياساتها وشعوبها، على مقاس الإرادة الأمريكية والتوجهات الصهيونية، بوصفها حلقة جديدة من حرب إعادة السيطرة على الشرق الأوسط التي تدور رحاها منذ الحرب على العراق في 1991، وضمان استمرار الهيمنة الصهيونية في المنطقة، دورة استعمارية تشبه ما حصل في بداية القرن العشرين وخصوصا بعد صدور وعد وزير خارجية بريطانيا القاضي بمنح وطن قومي لليهود على أرض فلسطين والمعروف باسم وعد بلفور في 1917. لكن حضور المقاومة وصمودها يدشن انطلاق مرحلة جديدة من تاريخ الأمة ووعيها الاستراتيجي، مرحلة انبعاث واستنهاض في مواجهة سياسات الظلم والاستبداد والاحتلال، إن المقاومة قد تخسر هنا أو هناك وقد تفشل في هذه المعركة أو تلك، ولكن من الناحية الرسالية والإستراتيجية فإن المقاومة تمد في عمر الأمة وفي عمر الوعي وفي عمر الشعوب إلى اليوم الذي تسترد فيها إرادتها وحريتها واستقلالها.