حتى عندما يصف كاردينال بارز بالفاتكيان الوضع المأساوي في قطاع غزة بمعسكر اعتقال؛ تكون الاتهامات الرسمية الصهيونية جاهزة، بأنّ الأمر يتعلق بتقمّص لدعاية حركة حماس ، وليس بيقظة ضمير إزاء كارثة متفاقمة يرسم ملامحها الحصار والعدوان. هكذا تماماً جاء ردّ وزارة الخارجية الصهيونية، يوم الأربعاء (7/1) على الكاردينال ريناتو مارتينو، الذي يرأس المجلس البابوي للعدالة والسلام بالفاتيكان. فسيل التصريحات الصهيونية في سياق التطوّرات الأخيرة لا ينقطع، وهو يأتي بلغات عدّة تخاطب الداخل الصهيوني، وتتوجّه للساحات العربية، وتحاول التأثير في بقاع العالم أجمع. وفي هذه التصريحات تأتي الرواية أحادية ومتجانسة بشكل مملّ ومتكرِّر بلا هوادة، تضخّها آلة دعائية حدّدت مضامين الخطاب الملائم لموسم العدوان والمذابح. والملمح الجوهري هو مفردة حماس ، التي تقفز متكرِّرة في ثنايا الجمل، المصبوبة كما الرصاص المتدفق على رؤوس الفلسطينيين، في القطاع الواقع بين مطرقة الحرب العدوانية وسندان الحصار الخانق. خلاصات جوهرية من رصد تحليلي هي ملاحظات لا تنهض من فراغ. فقد أظهر رصد تحليلي أنّ الإعلام الصهيوني الرسمي وشبه الرسمي، يركز على وصف الحرب الجارية على قطاع غزة، بأنها حرب بين الجانب الصهيوني وحركة المقاومة الإسلامية حماس حصراً، مع تغييب كافة المكوِّنات الأخرى لساحة المقاومة الفلسطينية. صحيح أنّ حضور حماس وامتدادها الجماهيري والمؤسسي هو الأعرض والأعمق في المشهد، وأنّ مقاتليها يشكلون مركز الثقل العددي والنوعي في واقع المقاومة؛ لكنّ ذلك كله لا يفسِّر التوجّه الاختزالي لما يجري بـ حماس ، خاصة وأنّ صور التناول الصهيوني تحرص أيضاً على تغيبب اسم الجناح العسكري للحركة كتائب عز الدين القسام ، ذاته. فحتى المقاتلون من حماس وشتى الفصائل والأذرع تتم نسبتهم إلى حماس ، مع تجاوز اسم القسام أيضاً. اتضح ذلك من خلال الرصد التحليلي الذي أجرته وكالة قدس برس ، طوال اثني عشر يوماً من العدوان الصهيوني الجاري على قطاع غزة، الذي دارت رحاه منذ السبت، السابع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) وما زالت تدور. وشمل الرصد عيِّنات وفيرة من الأنباء والتقارير والتعليقات في وسائل إعلام صهيونية مرئية ومسموعة ومقروءة وإلكترونية، وبيانات جيش الاحتلال، وإفادات المتحدثين باسمه، وكذلك ما يصدر عن أركان الحكومة الصهيونية من بيانات وتصريحات ومواقف، موجّهة نحو الأوساط الصهيونية والإقليمية والدولية ووسائل الإعلام على تنوّعها. حملة دعائية مركّزة يُظهِر الرصد التحليلي، أنّ الإعلام الصهيوني يخوض حملة دعائية مركزة، تستهدف تصوير ما يجري من حرب ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته في قطاع غزة، على أنها مجرد مواجهة مع حركة حماس ، وبالطبع بعد نفاد صبر الصهاينة على الصواريخ الفلسطينية، حسب الرواية. وعلى صعيد المضامين؛ وردت بشكل كثيف تعبيرات منها مسلحو حماس ، مخرِّبو حماس ، مليشيا حماس الإرهابية ، أو عناصر حماس . كما جاءت صياغات من قبيل السعي إلى تغيير قواعد اللعبة مع حماس ، وأنّ الجانب الصهيوني يتطلع لتعقب ناشطي حماس وقادتها الذين يقفون وراء إطلاق الصواريخ . ويبدو بشكل جليّ؛ أنّ الآلة الدعائية الصهيونية، تتعمّد تجاهل الإشارة إلى جناح حماس العسكري، الذي يحمل اسم كتائب الشهيد عز الدين القسام ، والذي يعدّ أكبر أذرع المقاومة الفلسطينية، وله بنية مستقلة وآليات عمل ذاتية. كما تغفل تلك الآلة، في الوقت ذاته وبشكل مُطبِق؛ الإشارة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية المتنوِّعة، أو أذرعها العسكرية التي تقف في صفوف المواجهة والتصدي بالتعاون والشراكة مع كتائب القسام . فلا إشارة تُذكر إلى سرايا القدس التابعة للجهاد الإسلامي، أو ألوية الناصر صلاح الدين التابعة للجان المقاومة الشعبية، أو كتائب أبو علي مصطفى التابعة للجبهة الشعبية، أو كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح ، أو كتائب المقاومة الوطنية التابعة للجبهة الديمقراطية، أو غيرها من الأذرع العاملة في الميدان. مقاصد محدّدة للتركيز على حماس من المؤكد أنّ للدعاية الصهيونية مقاصد محدّدة من هذا التوجّه المركّز، واللافت للانتباه، تتمثل وفق التحليل، في مرامٍ عدّة متعدّدة ومتضافرة ومتداخلة. أحد هذه المرامي، يتضح في محاولة تصوير حركة حماس بكافة أقسامها ومجالات حضورها ونشاطها وأجنحتها المتخصصة على أنها حالة أحادية متجانسة. ومعنى ذلك، أنّه في حماس يتساوى السياسي مع العسكري، وكذلك مع الاجتماعي، ومع الإنساني والأكاديمي والإعلامي أيضاً. وبهذا تدفع الآلة الصهيونية الدعائية باتجاه تبرير الاستهداف الشامل لكل البنى والهياكل والمؤسسات والأشخاص في قطاع غزة، حتى في المجالات ذات الحصانة الشديدة؛ كالجامعات والمدارس غير التابعة للأمم المتحدة، علاوة على قصف مدارس الأونروا مع ترويج روايات مختلقة كذرائع تأتي جاهزة بدون عناء. ومن جانب آخر؛ فإنّ الدعاية الصهيونية تلك، ترمي إلى تقديم صورة مُقوْلبة عن حركة حماس خلافاً للواقع، باعتبارها مجرد ذراع عسكري يطلق الصواريخ، بما يخدم أهدافاً مُبهمة جرى الحديث عنها صهيونياً؛ من قبيل تقويض حركة حماس . أبعد من ذلك؛ هو ما يسعى إليه الأداء الإعلامي الصهيوني من وصف العدوان على أنه حرب على حماس ، مصداقاً لتأكيدات كبار المسؤولين والمتحدثين الرسميين الصهاينة في المستويين السياسي والعسكري وتداخلاتهما، من أنّ إسرائيل لا تستهدف الشعب الفلسطيني؛ بل تستهدف حركة حماس، التي تقوم بإطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل ، حسب الرواية المتكرِّرة. ويبدو بشكل جليّ أنها رواية مركّزة، يجري استدعاؤها وضخّها في كل مناسبة، طوال اثني عشر يوماً من العدوان، بل منذ أيام سبقت ذلك، حسب الرصد التحليلي، كما هو الحال مثلاً في المؤتمر الصحفي الشهير لوزيرة الخارجية الصهيونية، تسيبي ليفني، المنعقد في القاهرة. فليفني التي تحرّكت وقتها بملابس سوداء تنذر بالموت الآتي للغزيين، تحدثت من القاهرة بكلمات تم تفسيرها على أنها إعلان للحرب، مستخدمة كلمتيها الشهيرتين كفى يعني كفى ، وفي السياق وردت مفردة حماس بوفرة لافتة للانتباه. دقّ الأسافين بطريقة منهجية ولا يتوقف السعي الصهيوني في هذا الصدد، على محاولة إيجاد حواجز شعورية بين حركة حماس والشارع الفلسطيني، باعتبار أنّ الحرب لا تستهدف الفلسطينيين في قطاع غزة ، وفق الادعاء الإسرائيلي؛ بل ويذهب التوجّه إلى محاولة تأليب الشعب ضد حماس ، بما يتوافق وبشكل صارخ مع مضامين المنشورات التي ألقاها الطيران الحربي الصهيوني على رؤوس الفلسطينيين في القطاع، ثلاث مرّات على الأقل خلال الأيام التي يشملها رصد قدس برس . فتلك المنشورات تؤكد رسالة مركزية؛ مفادها أنّ جيش الدفاع الصهيوني لا يستهدفكم أيها الفلسطينيون، بل يستهدف حماس التي تطلق الصواريخ على إسرائيل . وتذهب هذه المنشورات إلى محاولة تحذير الفلسطينيين من حركة حماس التي ستجلب الدمار لكم ، في محاولة لضرب الروح المعنوية التي تبدو رغم ذلك عالية ومتماسكة، ومحتضنة للمقاوَمة ومحتسبة للضحايا شهداء على طريق فلسطينية طويلة. كما يهدف ذلك لتوجيه السخط إلى العنوان الفلسطيني الداخلي؛ بدلاً من العنوان الصهيوني الذي يقصف ويدمِّر ويزرع الموت والهلع، وهو ما لم تتوفر أي إشارة على أنّ الحملات الدعائية الصهيونية قد أفلحت فيه، في المدة التي يشملها الرصد. محاولة اللعب على التناقضات واتضح من البلاغات والأنباء الصهيونية ذات الصلة بالتطوّرات الميدانية؛ أنّه لا إشارة تقريباً إلى فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، رغم أنّ حضور بعض هذه الأذرع يبدو واضحاً من خلال الأداء الميداني في الواقع إلى جانب كتائب القسام . فحتى عندما يتعلق الأمر بعملية لأحد الأذرع غير القسام ، يقتصر الحديث على حماس ، ومثل ذلك بالنسبة لإطلاق صواريخ، أو لسقوط شهداء فلسطينيين من المقاومين. وثمة ما يمنح الانطباع بأنّ الآلة الدعائية الصهيونية ترمي من خلال ذلك إلى اللعب على بعض التناقضات الفلسطينية الداخلية، بخاصة عبر محاولة مُفترَضة لاستمالة قطاع من المعارضين لخط حركة حماس في ظل الانقسام الراهن في الساحة الفلسطينية. ثم إنّ هذا التركيز يشي بمحاولة الاستفراد بحركة حماس ، سواء ضمن معادلات الساحة الفلسطينية الداخلية المعقّدة، أو الحسابات الإقليمية الأكثر تعقيداً، أو بالنسبة لبعض الأطراف الدولية ذات النفوذ في المنطقة. ويكفي أنه على المستوى الدولي، بوسع المسؤولين الصهاينة أن يخاطبوا العالم بالقول إنها منظمة إرهابية؛ وعلينا أن لا نتهاون معها . هي بالتالي محاولة لوضع هذه الحرب على مسار ما يُسمى الحرب ضد الإرهاب ، التي أطلقتها إدارة الرئيس الأمريكي المنصرف جورج بوش. ولم تبتعد تسيبي ليفني كثيراً عن هذا المعنى، عندما خاطب أوروبا بلغة رائجة، بالقول إنّ الحرب على حماس هي معركة ضد الإرهاب الإسلامي، واضعة دولتها العبرية في القارب الأوروبي ـ الغربي، الذي يجري التعبير عنه ضمناً بمصطلح العالم الحرّ . أعراض جانبية للدعاية الصهيونية ومع ذلك؛ فإنّ الدعاية الصهيونية مهما بدت محبوكة بعناية؛ لم تتحسّب ربما لأبعاد غير مرغوبة، أو أنها سلكت هذا النهج رغم الأعراض الجانبية المترتبة عليه. فدعاية صهيونية من هذا النوع، ربما قد تعزِّز من موقف حماس الجماهيري في خارج فلسطين. فعلى امتداد العالم العربي والإسلامي وبعض دول العالم الأخرى، يجري بشكل ضمني وغير مقصود تقديم حماس على طبق من ذهب، بأنها وحدها معبِّرة عن الموقف الفلسطيني الصامد في وجه الاحتلال، أي عن الإرادة الشعبية الفلسطينية. ويزيد من ثقل هذا التأثير؛ سيل تصريحات ومواقف صهيونية مقابلة؛ تمنح الانطباع بوجود قواسم مشتركة مع جناح السلطة الفلسطينية بالضفة الغربية. وللمفارقة؛ فإنّ آلاف المتظاهرين في لندن رفعوا لافتة كتبوا عليها جميعنا حماس ، كما برزت صور رئيس الحكومة بغزة إسماعيل هنية، علاوة على مؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين، الذي اغتاله الطيران الحربي الصهيوني. وقد جاء ذلك دون العثور على صورة واحدة في خضم مظاهرات ضمّت الملايين في أرجاء العالم، لمحمود عباس، الرئيس الذي أحرق آلاف السودانيين الغاضبين صورة كبيرة له تجمعه بشكل حميم مع إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الصهيوني. ما سيكون أشدّ وطأة على المسلك الدعائي الصهيوني الراهن، هو استمرار العجز الميداني الراهن لما كان يسمى الجيش الذي لا يقهر . فإذا تعاقبت الأيام دون أن يقتنص الجيش الصهيوني مشاهد النصر في الحرب الجارية ضد قطاع غزة؛ تكون المقاومة الفلسطينية هي التي انتصرت عملياً. وعندها سيجد الجميع أنّ حماس ، هي عنوان النصر، ما سيكلٍِّف الجانب الصهيوني أثماناً إستراتيجية ومعنوية باهظة، ترتدّ معها دعاية الحرب الصهيونية على عقبيها. تواصل مع خبرات سابقة يبقى السؤال قائماً عن مدى وجود أسبقيات لهذا النهج الدعائي الصهيوني، وفي ما إذا كان تجربة جديدة بحد ذاتها في التركيز والاستفراد. سؤال يقتضي البحث عن الإجابة من داخل الساحة الفلسطينية، وكذلك من جهة الحدود الشمالية، وتحديداً من لبنان. ففي سنتي 2001 و2002، بلغت الحملة الصهيونية والأمريكية على قيادة الرئيس ياسر عرفات ذروة حادّة. لم تكن الذريعة صواريخ القسام التي لم تكن قد أمطرت سديروت وعسقلان بعد. بل برزت ذريعة مفاجئة، من قصة نسجت حولها أساطير مطوّلة بين تل أبيب وواشنطن. إنها السفينة كارين إيه ، حيث رواية تتحدث عن صفقة سلاح إيرانية ضبطت متوجهة إلى ساحل غزة، وعنوانها فلسطيني رسمي. وقتها كان الاستفراد بالرئيس عرفات غير الجدير بالثقة الأمريكية، وحيث لا يوجد شريك حسب الخطاب الصهيوني. مقابل قيادة عرفات، جرت إشادة أمريكية بأسماء معتدلة ، فتم الضغط لاستحداث منصب رئيس وزراء، ووزير داخلية، والدفع بأسماء أشيد بها، أبرزها محمود عباس رئيس وزراء حكومة المائة يوم، ومحمد دحلان القيادي الأمني البارز، وسلام فياض القادم من صندوق النقد الدولي. فالحملة كانت على عرفات، المحاصر في مقاطعته، والذي يتوجّب على الفلسطينيين استبداله برئيس ديمقراطي يقودهم إلى السلام . هو خطاب أمريكي وصهيوني متضافر، لا يبتعد كثيراً عمّا يجري حالياً على صعيد الأداء الدعائي المتماثل، صهيونياً وأمريكياً، مع تباين الحالة والظرف والموضوع. لكنّ الأهم والأكثر وضوحاً؛ أنّ حملة التركيز على حماس دعائياً، تأتي في الحرب الجارية على القطاع المخنوق بالحصار؛ بمثابة استدعاء لا لبس فيه للخبرة الصهيونية في إدارة المعركة الإعلامية، على هامش حرب تموز (يوليو) 2006 على لبنان. يومها؛ أمعنت الآلة الدعائية الصهيونية في تصوير ما يجري باعتباره مجرد حرب على حزب الله . وتبدو المرامي الصهيونية من وراء ذلك متشابهة بشكل نسبي مع الحرب الحالية، باستثناء فوارق يمكن إحالتها إلى خصائص تتمايز بها الساحتان اللبنانية والفلسطينية. انعكاسات في الإعلام العربي من الاستنتاجات المثيرة للانتباه، أنّ رصد قدس برس التحليلي، يوضح، أنّ مضامين الدعاية الصهيونية تجد انعكاسات وأصداء، وتأثيرات ارتدادية، في الخطاب السياسي لبعض الدول والأطراف العربية. فهناك في المحصِّلة مسؤولون عرب مضَوْا بعيداً في تحميل حركة حماس المسؤولية الكبرى أو الجزئية عن اندلاع الحرب، وأخذت الآلات الإعلامية الرسمية هنا وهناك تلوك الموقف الرسمي المعلن على طريقتها. كما لوحظ أنّ تقارير قنوات إخبارية ومحطات تلفزة وصحف ومواقع إلكترونية، قد عبّرت بدرجة نسبية متفاوتة، عن منحى شبيه. هكذا جرى أحياناً تصدير عناوين تركز على أنّ الحرب الجارية هي ضد حماس ، أو أنّ حماس أطلقت صواريخ . في تلك الحالات التي تلفت الانتباه، جاء ذلك على حساب حضور مصطلحات مثل المقاومة ، أو أسماء أذرع وأجنحة عسكرية للفصائل. كما ذاب في الوسائل ذاتها اسم كتائب عز الدين القسام . يمنح ذلك الانطباع، أنّ الدعاية الصهيونية مرشحة لإخفاقات تبدو ملموسة، لكنها في الوقت ذاته تحقق نجاحات حيث لا يبدو متوقعاً أحياناً.