ما زالت تتردد على مسامعي بوضوح أصوات أصدقائي في غزة وهم يبكون ويندبون مقتل أطفالهم الذين في عمر ابنتي الصغيرة، تحترق أجسادهم الغضة وتتناثر أشلاؤهم بطريقة خالية من الإحساس والمشاعر. سألتني إحدى صديقاتي الفلسطينيات عن سبب قصف إسرائيل في ساعات خروج الأطفال من المدارس وساعات تسوق النساء. وهناك تقارير عن آباء لا يستطيعون العثور على جثث أطفالهم فيجوبون المستشفيات ويبحثون عنهم في حال من اليأس والقنوط. مع احتفال اليهود مؤخرا بعيد الأنوار هاحانوكا (بعث الشعب اليهودي) أسأل نفسي كيف يمكنني الاحتفال بيهوديتي في الوقت الذي يقتل فيه الفلسطينيون؟ وفي هذا السياق سأل المفكر الديني مارك إيليس إن كان العهد اليهودي مع الرب موجودا أو غائبا في ظل القمع اليهودي للفلسطينيين؟ وهل ما زال العرف الأخلاقي اليهودي موجودا بيننا؟ هل أصبح من المتعذر استعادة وعد القدسية وهو المحور لبقائنا؟ يعيش المحظوظون من سكان غزة في بيوت موصدة الأبواب وفي ظل الجوع والعطش والظلمة ولكن أولادهم أحياء. منذ 4 نوفمبر حين انتهكت إسرائيل الهدنة مع حماس بشنها هجوما واسع النطاق لم يسبق له مثيل على غزة، تصاعد العنف بإطلاق حماس مئات الصواريخ على إسرائيل لقتل المدنيين الإسرائيليين، وذلك في ظل ما يقال من أن استراتيجية إسرائيل تقوم على أساس استهداف المواقع العسكرية التابعة لحماس. أحكمت إسرائيل ومنذ الخامس من نوفمبر إغلاق قطاع غزة لتحرمه من إمدادات الغذاء والأدوية وغاز الطبخ والوقود وقطع الغيار اللازمة لنظام المياه والصرف الصحي. وفي هذا السياق قالت صديقة لي في القدس: إنه لم يسبق لإسرائيل أن قامت بحصار كهذا. كان معدل عدد الشاحنات التي دخلت قطاع غزة 6,4 شاحنة يوميا خلال شهر نوفمبر مقارنة مع 123 شاحنة دخلت القطاع يوميا في شهر أكتوبر. لقد منعت إسرائيل دخول قطع الغيار اللازمة للمعدات المتعلقة بأنظمة المياه لمدة تزيد على عام، كما ذكرت منظمة الصحة العالمية أن نصف عدد سيارات الإسعاف في غزة خارج الخدمة بسبب الأعطال. بلغ عدد القتلى الفلسطينيين خلال الأيام الثلاثة الأولى للغارات الإسرائيلية ووفقا لوكالة أسوشيتد برس370 قتيلا ونحو 1400 جريح. كما ذكرت الأممالمتحدة أن 62 من القتلى هم من المدنيين بينما قال مسؤول في وزارة الصحة الفلسطينية أن 22 طفلاً ممن تقل أعمارهم عن 16 عاما قد قتلوا وأن 235 طفلاً قد جرحوا. في الحقيقة لم أواجه خلال مدة عملي وتغطيتي للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية صورا مروعة لأطفال محترقين كما شاهدت اليوم. بالنسبة للفلسطينيين يبدو الأمر أبعد من صور فهو حقيقة، ونظرا لذلك أخشى تغييرا عميقا، فهل هناك من يتحدث عن المصالحة والتسوية كسبيل للتحرير أو عن التعاطف والمشاعر كمصدر للتفاهم؟ وأين يمكن للمرء أن يجد أو حتى البدء في إيجاد مساحة مشتركة من التضامن والتعهد الإنساني -اقتباس من المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد- الضروري من أجل التعايش المشترك؟ إنه أمر واحد أن تقوم بالاستيلاء على أرض شخص ما وعلى بيته وماشيته لتشويه مطالبه وتجاهل مشاعره ولكن قتل أطفاله أمر آخر. ماذا سيحصل لمجتمع يحرم من تجديد نفسه وتغلق أمامه كافة الإمكانات؟ ماذا سيحصل لليهود كشعب سواء كانوا يعيشون في إسرائيل أو في الخارج؟ لماذا نحن عاجزون عن قبول الحقوق الإنسانية الأساسية للفلسطينيين؟ نحن نرفض قيام أي اتصال إنساني مع الشعب الذي نقمعه وهدفنا هو اختبار الألم واقتصار أفق المعاناة الإنسانية علينا وحدنا. سيجلب رفضنا للآخر الكوارث علينا. ولا بد من التعامل مع الفلسطينيين والعرب من المفهوم اليهودي للتاريخ فهم جزء منه، علينا مراجعة روايتنا والرواية التي رويناها للآخرين والتحقيق فيها بدلا من الاستمرار في الاحتفاظ بمعتقدات وآراء تخون الميثاق الأخلاقي اليهودي. يرفض المفكرون اليهود العنصرية والقمع والظلم في كل مكان من العالم، ولكنه عمل من الهرطقة بالنسبة للبعض أن تقوم إسرائيل بمعارضة ذلك في حين أنها تضطهد وتظلم. يجب وضع حد للمعايير المزدوجة وللكيل بمكيالين. تكشف انتصارات إسرائيل -والتي هي عبارة عن محارق- حدود قدرة إسرائيل وقدراتنا كشعب. نحن عاجزون عن الحياة من دون قيود وحواجز. فهل هذا هو حدود ونطاق إعادة ميلادنا بعد المحرقة؟ بقيام دولة إسرائيل اشتد عضدنا كشعب يهودي. فكيف ظهرنا من بين الفظائع والذل لنصبح أكثر قوة وإنسانية؟ وكيف علينا التحرك لنتجاوز حدود الخوف باتجاه رؤية شيء مختلف حتى وإن كان غير مؤكد؟ إن الجواب على ذلك هو من يقرر من نحن وماذا سنكون. سارة روي باحثة رفيعة المستوى في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد عن كريستيان ساينس مونيتور