هل يمكن أن يصبح الإصلاح مستحيلا ؟ قد يبدو هذا السؤال مستغربا خاصة حين يصدر من فرد أو مجموعة أو حركة أو حزب يؤمن بالمشاركة وهو منخرط فيها إلى النخاع . وقد يجد فيه بعض العدميين أو الرافضين أو الانتظاريين دليلا على تزكية مواقفهم وتوجهاتهم الرافضة أو الانتظارية أو العدمية ؟ نقول بدءا ونقرر أن الوصول إلى وضع تاريخي يصبح فيه الإصلاح مستحيلا وارد جدا وذلك حين يتغلغل الفساد وتتعقد شبكاته وتشتد مقاومته للتغيير، وتصبح له آليات بنيوية تعمل على إعادة إنتاجه واستدامته . وقد يصل الأمر إلى درجة يحتاج فيه الأمر إلى دورة تاريخية جديدة وشروط جديدة وجيل جديد ، أو إلى تدخل غيبي كما كان يحدث في عصرالرسالات والنبوات. والقرآن يقدم لنا عدة نماذج حسمت فيها المعركة بتدخلات غيبية في نهاية المطاف كما نجد ذلك في عدد من تجارب الأنبياء . والمثال الصارخ على ذلك تجربة سيدنا توح عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، لم يترك وسيلة من وسائل الدعوة ومدخلا من مداخل الإقناع العقلي أو الاستمالة الوجدانية إلا سلكه ، ورغم ذلك أصروا على عنادهم وضلالهم ولم يؤمن معه إلا قليل ، كما جاء في سور نوح : قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فلم يحد بدا في النهاية ـ بعد يأسه من صلاحهم أو إصلاحهم ـ من أن يتوجه إلى الله بالدعاء قائلا : وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً . فكان الطوفان بعد ذلك ، وهو إشارة إلى استئناف حياة جديدة في مجتمع جديد ، بمقومات جديدة بعد استحالة إصلاح حالة مستعصية وميؤوس من صلاحها أو إصلاحها وحين نقرر هذا الاحتمال فإننا إنما نطرحه ليكون واردا في نظر وتقدير رواد الإصلاح ودعاته ، وكي نقرر من جهة ثانية أن المطلوب منهم ليس دوما هو الانتصار النهائي في معارك مجابهة الفساد ، وإنما أن يبقوا صامدين وشاهدين أي أن لا يتحولوا إلى جزء منه أو أن يكونوا أحد أركانه أو يندرجوا ضمن ثقافته يحدثنا القرآن عن عدد كبير من التجارب التاريخية التي قتل فيها أنبياء ، لم يستسلم فيها أصحابهم ووحواريوهم وأتباعهم ولم يهنوا ولم يستسلموا . يحدثنا عن ذلك وهو يعرض فرضية إمكانية قتل أو موت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي وقت من الأوقات . ولكن استئصال صاحب الرسالة وأنصارها ، إن كان يشير إلى إمكانية انتصار الفساد والمفسدين في مرحلة من المراحل ، لا يعني الهزيمة النهائية في مواجهة الفساد : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين لذلك فإن إقرار إمكانية تعذر الإصلاح أو استحالته في مرحلة معينة قد تطول أو تقصر لا يفضي ضرورة من الانسحاب من الساحة ، أو ركوب المراكب السهلة للعدمية أو الرفض أو الانتظارية . فهذه المواقف تتحول إلى جزء لا يتجزأ من منظومة الفساد بل إن القرآن يبين أن من المشمولين بالعذاب أو الهلاك المترتبين عن الفساد ـ سواء كانا غيبيين أو كونيين أي نتيجة سننية لسيادة الفساد ـ المنتظرين والساكتين الرافعين أيديهم من القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو الذين لا يراعون أبجديات فقه الأمر بالمعروف والمنكر . فهاهو الحق سبحانه وتعالى يقرر أن في قضية أصحاب السبت إهلاك الذين تركوا واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث يقول الحق سبحانه وتعالى : (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (سورة الأعراف.)ويقول في موقع آخر : ( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ) سورة هود . وفي الحديث عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا) قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ:( نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) رواه البخاري ومسلم . وفي موقف الانسحاب من مواجهة المنكر نجد قصة يونس عليه السلام الذي ذهب مغاضبا فالتقمه الحوت وهو مليم وذلك في قوله تعالى مثلا : وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إلاه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . واليوم تظهر من حين لآخر مؤشرات تشير إلى استحكام وطأة الفساد وتشعبه في واقعنا . الفساد اليوم قد تحول إلى واقع بنيوي . لم يعد الفساد اليوم قضية مرتبطة بالقرار السياسي أو الإرادة السياسية فحسب ، فقد تتوفر أن الإرادة السياسية أو على الأقل قج يعبر عنها رسميا بكل وضوح . لكن الفساد ولبياته المستحكمة والمستفيدة قد تفرغ في الواقع تلك الإرادة وما قد ينجم عنها من إجراءات وقرارات وسياسات من محتواها . الفساد اليوم قد تحول إلى ظاهرة مركبة تخترق المجتمع طولا وعرضا . الفساد أصبح له في بلداننا اليوم أركان وسقوف . كما أصبح له نظامه الذي يعيد إنتاجه ويمدد له في الحياة ، وأليات تصديه لمحاولات الإصلاح وسياسات الإصلاح وقرارات الإصلاح. الفساد اليوم لم يعد ظاهرة أخلاقية فردية معزولة وإنما أصيح صناعة لها لوبياتها التي تعيد إنتاجها وتمكن لها ، و شبكاته الممتدة عموديا وأفقيا والتي يسند بعضها بعضا ويقوي بعضها البعض الآخر. . والأخطر من ذلك أنه الفساد قد أصبحت له آلياته وقدرته على نشر ثقافة الرشوة وإعادة إنتاج القابلية لها حتى إنه قد قل من ينجو من شرها وشررها .وحين يصل الفساد إلى هذه المرحلة المتقدمة نكون قد بدأنا في الدخول إلى مرحلة استعصائه على العلاج ، إلى درجة أنه يصبح متمردا حتى على القرار السياسي ومستخفا به بل مستعدا لحماية نفسه ولو اقتضى الأمر اللجوء إلى العنف . ومهما يكن من أمر فإن هذه المرحلة المتقدمة من الفساد تبقى على مسؤولية حركات الإصلاح ورجال الإصلاح . وتكمن هذه المسؤولية في إقامة الشهادة وإعطاء الدليل على أن الإصلاح ممكن وأنه مهما تكون وطأة الفساد فإنه يظل هناك رجال رساليون لا يبدلون ولا يغيرون ولا يهنون ولا يحزنون . المشكلة الحقيقية والقضية الأخطر هي حين يتحول أهل الصلاح والإصلاح تدريجيا إلى جزء من منظومة الفساد : أما بالاستدراج لأن المفسد لا يطمئن له جفن مادام هناك رجل واحد ظاهر يقيم الحجة على أنه يمكن تدبير الشأن العام والمشاركة في مجالات السياسية والاجتماع والانخراط فيها إلى النخاع مع التزام المبادئ والمحافظة على القيم ، وإما بالانسحاب والصمت أو الرفض واليأس . وهذا يعني أن مقاومة الفساد تبدأ من غرس ثقافة الإصلاح أي بغرس الإيمان بأن الإصلاح ممكن ، وأن معركته تبدأ في ذواتنا وأنفسنا أي من تحصينها ضد الفساد ومن الانخراط في شبكته وشباكه ومنظومته . مرة أخرى تتأكد أولوية الإصلاح الثقافي وإنه مدخل من مداخل الإصلاح.