إن المحاولات الفكرية الجديدة التي يبذلها عدد من أئمة الفكر الإسلامي المعاصر لتشييد نظرية الوسطية، ناقصة إذا لم تع الاختلاف والتعدد الدلالي الذي يسكن مفهوم الوسطية، وحتى في حالة الوعي بهذا الاختلاف، لا يمكن أن نتخذه ذريعة لتوليد دلالات أخرى مهما كانت درجة قربها من الدلالة الظاهرة للآية الكريمة، ذلك أن مثل هذا العمل أثره محدود في تصويب وتعديل واقع المسلمين والعمل الإسلامي. فمفهوم الأمة الوسط والوسطية يحتاج بناؤه من الناحية المنهجية إلى استراتيجية جديدة تدرك مقومات مقام وسطية الأمة المسلمة، وكيف تحققت تاريخيا، وما ينقضها عمليا، ويحررها من النزعات الطائفية والمذهبية. إن معنى الوسط الوارد في قوله تعالى: +وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا؛ لدى أغلب المفسرين هو العدل والخيار (الخيرية) من الناحية العقدية والتشريعية. وقد استحقت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هذه المكانة بين سائر الأمم، وشرفها الله تعالى بالشهادة على الناس باعتناقها رسالة الإسلام واتباع الهدي النبوي في مختلف المجالات، ومن ثم أي انحراف عن منهج الإسلام ونهجه هو في النهاية ابتعاد عن الوسط وتطرف مذموم. لكن معضلة الوسطية حسب هذا الفهم يختزلها السؤال التالي: لقد تشكل الإسلام بعد مدة قصيرة من ظهوره في شبه الجزيرة العربية في صورة منظومات مذهبية عقدية وفقهية...، يدعي كل منها التعبير الصحيح والسليم عن الإسلام، فهل الوسطية هي اختيار مذهبي من بين المذاهب التي ظهرت في المجال الإسلامي أم هي معنى متضمن في سائر المذاهب، وبالتالي لا يطعن فيها هذا التعدد والاختلاف؟، وما هو مصير الوسطية الإسلامية في ضوء هذا الاختلاف؟ إن الجواب عن هذا السؤال يقتضي منا تجديد فهمنا لظاهرة المذهبية وتحليلها تحليلا عصريا، يجعل منها وصفا إيجابيا لتراثنا الثقافي الفقهي والكلامي خلافا للمواقف السائدة في الأوساط الإسلامية المعاصرة، بل وحتى القديمة، التي حملت على عاتقها عناء الإصلاح من منظور إسلامي، والتي جعلت من المذهبية وصفا سلبيا، شأنها في ذلك شأن عدد من علماء الإسلام؛ فالشهرستاني على سبيل المثال عدد الفرق الإسلامية في كتابه الملل والنحل على أساس تحديد الفرقة الناجية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه +ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة؛ وفي روايات أخرى اثنتين وسبعين، وبالتالي تظهر كل الفرق والمذاهب التي ذكرها في مؤلفه فرق ضالة عدا واحدة، غالبا ما تكون هي فرقة المؤلف. وفي هذا السياق يمكن القول أن المذهبية بصورها المختلفة الأساسية؛ الفقهية والكلامية، هي في الأصل مذهبية تاريخية، تعبر عن اختلاف البيئة التاريخية الإسلامية وتنوعها، فمن حيث المنهج هي طريقة اتصال نسق الإسلام المجرد بأحوال الناس وتاريخهم، ومن حيث المضمون هي صورة للإسلام، نشأت وتطورت في تفاعل مع تواريخ المسلمين المتعددة، تعدد المراجع الثقافية والفكرية المحلية والظروف السياسية، بل وحتى الطبيعية والجغرافية، أو بعبارة أخرى هي الصيغة الثقافية والنظرية للإسلام المرادفة لتواريخ المسلمين، أي أن المذاهب الإسلامية إجمالا هي ممكنات الإسلام التاريخية التي تحققت، وهي كإمكانية قبل التحقق تسمح بها طبيعة الإسلام ومصادره الأساسية المتشابهة والمجملة في الكثير من الأحيان، ويفرضها أيضا الواقع العملي. فالمذاهب الكلامية في المجال الإسلامي اقتضتها الظروف التاريخية الصعبة التي عاشها الإسلام والمسلمون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأهمها على سبيل المثال لا الحصر الخلاف حول الإمامة بين قائل بالنص والوصية، وقائل بالاختيار والاتفاق، وتحدي عقائد البلاد المفتوحة مثل المانوية وغيرها، بالإضافة إلى مسائل عقدية كالتوحيد والقضاء والقدر وغيرهما، وبالتالي كانت التوليفات الكلامية التي ظهرت في بلاد الإسلام لها معنى تاريخي واضح في أذهان مؤلفيها ومعاصريهم. وبالنسبة للمذاهب الفقهية فالأمر أوضح، فارتباطها بالتاريخ وتفاصيله قوي وظاهر. فإذا أخذنا اختلاف المتكلمين في مسألة إثبات الصانع نموذجا، واستقرأنا أقوال المذاهب على تعددها وجدنا أنها تتفق جميعها في وجود الصانع وتؤكد وحدانيته، وأما اختلافها فمحصور في مناهج الأدلة. وهذا النوع من الاختلاف باعتباره اختلافا في الأدلة لا في ذات العقيدة، لا يخرج بالأمة المسلمة عن وسطيتها، وسببه التأويل، وبالتالي المنظومات المذهبية الكلامية والفقهية التي انتشرت في المجال الإسلامي هي في العمق تعبيرات ممكنة عن الإسلام تحققت تاريخيا، لم تتجاوز الوسط إلا في حالات قليلة. فانطلاقا مما سبق يجوز القول أن المعتزلة والأشاعرة...، وأغلب المذاهب الكلامية الإسلامية هي وجوه توسط الأمة المسلمة التي تنأى بالإسلام والمسلمين عن عقائد النصارى واليهود، وحتى الأخطاء في التأويل التي وقع فيها بعض أئمة المذاهب، والتي أخطأوا فيها الوسط عاقبتها مأمونة من الناحية الأخلاقية ومعذورون فيها، يتأرجح أصحابها بين الأجر والأجرين. وهذا ليس معناه أن الأمة المسلمة سلمت من تيارات التطرف عبر تاريخها الطويل، بل على العكس من ذلك تعرفت على هذه التيارات منذ وقت مبكر، فقد ظهر بعض الانحراف في عقيدة الوسطية في دار الإسلام، الذي لا زال حاضرا إلى يومنا هذا، مثل اقتراب بعض فرق الشيعة والصوفية من عقائد المسيحيين بغلوهم في محبة علي رضي الله عنه ووصفه بأوصاف فيها قدر من التنزيه والتأليه، وكذلك الشأن مع الأئمة، وأيضا تطرف أهل الظاهر اللذين يقتربون من عقائد اليهود، ويعتبر الخوارج أبرز مثال على هؤلاء، وقد عبر عن هذا المعنى الأستاذ عبد الله العروي بعبارات مستفزة وثورية حين قال: +فيكون الإسلام يهودي المضمون، وهو ما يهدد أصحاب الظاهر، أو نصرانيا وهو ما يحدق ببعض الصوفية وغلاة الشيعة؛. إن موقف الوسط والوسطية موقف دقيق وشديد الحساسية في الإسلام، والوجود فيزيائيا ومعنويا في محل الوسط والاستمرار فيه أمر بالغ الصعوبة والعسر، وبالتالي الحكم على تيار من التيارات الكلامية والفقهية بالتوسط والاعتدال بشكل عام ومطلق فيه قدر كبير من المبالغة والمجازفة؛ فوصف الوسطية بالنسبة لمنظومة مذهبية وفكرية إسلامية هو موقف نسبي، فقد تصيب الوسط في مسائل معينة وتفقدها في مسائل أخرى، ومن ثم التحقق من وصف الوسطية بشكل تام وكامل، ليس أمرا سهلا، وفي متناول الجميع، بل هو أمر بالغ الصعوبة، لا يصله المرء إلا بعد مجاهدة كبيرة، فكرية وروحية، وسعة علمية. وقد لفت انتباهنا العلامة الفيلسوف ابن رشد في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة إلى هذه الحقيقة، حيث أشار إلى أن جل التيارات الكلامية الإسلامية اتفقت في أصل العقيدة الإسلامية ونصها، ولكنها اختلفت في الاستدلال عليها، وقد نحا بعض هذه التيارات منحى متطرفا وغير وسطي في شرح مفردات هذه العقيدة، ومثالا على ذلك ذكر قول الحشوية في الصفات، التي ترى أن الله تعالى يتصف بالجسمية أو أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام، وهذا الاعتقاد فيه انحراف كبير سببه الظاهرية المفرطة التي ميزت أهله في التعامل مع الآيات التي تحدثت عن صفات الله الباري تعالى. وما دام النص الشرعي من جهة، وعدة العالم من جهة ثانية تتيح إمكانية الاختلاف في الفهم والتأويل وعلى أكثر من صعيد، على مستوى العقيدة وأدلتها، والأحكام وأصولها، وحتى تحافظ الجماعة المسلمة على وحدتها المرجعية، وتسلم من الفرقة والطائفية لابد من قانون للتأويل يحدد مواضع التأويل وآفاقه، وما يجوز تعميمه ونشره بين الجمهور وما لا يجوز، بحيث لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله المؤول من شريعة] للجمهور؛، وقد حاول ابن رشد في خاتمة الكشف عن مناهج الأدلة أن يحدد بنود هذا القانون الرئيسية. إن الوسطية كوصف لازم للأمة المسلمة ـ منظورا إليها من الناحية التاريخية ـ وصف عام، أكبر من الإطارات المذهبية المعروفة، سواء كانت كلامية أو فقهية أو أخلاقية، وتتجسد في الظاهر من العقائد على حد تعبير ابن رشد، أو في الظاهر من الشريعة بأبعادها المختلفة العقدية والفقهية والأخلاقية دونما حاجة إلى تأويل. أما ما كان أصلا للفرق والطوائف في الإسلام من مقولات ومبادئ ونظريات، والتي أساسها التأويل أو مسبقات معرفية وفكرية خاصة، والتي قد تنأى عن الوسط في قضية من القضايا أو أكثر، ورغم مشروعيتها العلمية والتاريخية فالواجب أن تظل بعيدة عن الجمهور حتى لا تتحول إلى انقسام تاريخي وتمزق اجتماعي وسياسي. ومن ثم كانت آفة الوسطية الإسلامية ومحنتها في نزول الرأي والتأويل الذي قد يجانب الوسط إلى عامة المسلمين وسائر المتدينين، وهو ما أدى إلى تمزيق الوحدة العقدية في المجال الإسلامي.