هناك خلط معيب وغريب بين الإيمان بعالم الغيب .. والتسليم بغرائب الأخبار التي تشيع فيها الخرافات.. فالغيب - الذي نؤمن به - هو ما جاءت به النصوص القطعية الثبوت والدلالة .. ونحن نقف به عند ما وراءه، دونما زيادات أو تأويلات .. ونكف العقول عن التطلع إلى إدراك الكنه والحقائق لهذه المغيبات، لأن ذلك مما لا تستقل العقول بإدراك كنهه وحقيقته مثل إدراك كنه وحقيقة الذات الإلهية.. وحقيقة صفات كمالها وجلالها .. وكذلك إدراك الكنه والحقيقة لما وراء الحديث عنه إجمالا من عوالم يوم الدين التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولأن الثقافة هي أوسع من الدين فلقد خلط البعض بين (القصص الوعظي) الذي هو جزء من الثقافة وبين العقائد الدينية فأدخلوا غرائب الأخبار التي حفل بها القصص الوعظي إلى نطاق الحقائق التي تمثلت في عقائد الدين.. ولأن الجماهير عادة مولعة بالقصص وبغرائبه على وجه الخصوص فلقد تسربت هذه المادة قصص غرائب الأخبار إلى كثير من كتب التفسير للقرآن الكريم .. وكتب التصوف، مع أن مصدرها الأصلي هو الإسرائيليات والإبداع الشعبي في الخيالات والخرافات. ولذلك جاءت دعوة علماء الأحياء والتجديد في نهضتنا الحديثة إلى تنقية كتب التراث من الإسرائيليات وكان الإمام محمد عبده هو الرائد الذي خاض العديد من المعارك الفكرية في هذا الميدان .. وعندما شرف الشيخ محمود شلتوت (1310/1383-1893/1963) بعضوية هيئة كبار العلماء عام 1941م/1360ه طلب أن تكون تنقية كتب التراث من الاسرائيليات واحدة من مهام هيئة كبار العلماء. ففي الإعلام تمييز واضح وحاسم بين الإيمان بالغيب الذي هو عقيدة من أمهات عقائد الإسلام .. (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) (البقرة 32)، مع الاقتصاد في أنباء المغيبات الذي هو خاصية من خصائص الإسلام قصد بها دفع العقل الإنساني إلى التركيز على ما يحسن وعيه ويقدر على إدراك كنهه في عالم الشهادة بدلا من الضياع في متاهات عالم لا يستقل بإدراك كنهه ومآلات أخباره. ولذلك دعا الإسلام في الموقف من المغيبات إلى الوقوف عند لفظ الوارد، دون خيالات ولا تأويلات .. وإلى صرف ما يمكن صرفه من الأخبار وفق السنة الكونية إلى هذه السنة بدلا من صرفه إلى الإعجاز. وانطلاقا من هذا المنهاج الإسلامي الأصيل والمتميز، انتقد الشيخ شلتوت تتبع بعض المفسرين للقرآن غرائب الأخبار التي ليس لها سند صحيح، فأغدقوا من شرها على الناس، وعلى القرآن، وكان جدير بهم أن يقيموا بينها وبين الناس سدا يقيهم البلبلة الفكرية فيما يتصل بالغيب الذي استأثر الله بعلمه، ولم ير فائدة لعباده في أن يطلعهم على شيء منه.. فيجب الوقوف في الإيمان بالغيب عند الحد الذي جاء به الخبر الصادق، ولا ينبغي التصرف فيه بالجمل على التمهيل، أو الزيادة عليه وضم شيء إليه، فضلا عن استبعاده أو إنكاره، وهذا هو شأن المؤمنين بالله وبكتابه وبغيبه.. لقد أنكر الماديون علم الغيب بإطلاق وغرق أهل الخرافة في عوالم المغيبات .. والحل هو في التوسط والاعتدال.