تُعرف التصرفات النبوية بالإمامة بأنها تصرفاته صلى الله عليه وسلم بوصفه رئيسا للدولة يدير شئونها بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد، ويتخذ الإجراءات والقرارات الضرورية لتحقيق المقاصد الشرعية في المجتمع ويسميها بعض العلماء تصرفات بالسياسة الشرعية أو بالإمارة .وقد درج بعض الأصوليين على الحديث عن المقام الذي يصدر عنه التصرف النبوي. وهو هنا مقام الإمامة أي موقع الرئاسة السياسية. ويميزونه عن المقامات الأخرى بميزات عديدة. فتصرف الرسول عليه السلام بالإمامة عند القرافي وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء. فهو بالتالي مقام غير مقام النبوة والرسالة، وغير مقام الفتيا، وغير مقام القضاء. ويختلف هذا المقام عن المقامات الأخرى بأمرين اثنين : 1 ـ أن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد . 2 ـ أن الإمام يمتلك قوة التنفيذ، وهذا شيء لا يملكه المفتي ولا القاضي. والمقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان لكن المهم هو أن نتوقف عند سمات التصرفات النبوية بالإمامة لنرى درجة الموضوعية التي يصر الأصوليون على التعامل بها معها.(...). وتبين سمات التصرفات النبوية بالإمامة أن الدولة الإسلامية دولة مدنية، وليست دولة دينية بالمعنى المتعارف عليه في الفكر السياسي الغربي. فطبيعة التصرفات النبوية بالإمامة وسماتها توضح كيف أن الإسلام ينزع كل عصمة أو قداسة عن ممارسات الحكام وقراراتهم، كما ينزعها عن الوسائل التي تتوسل بها الدولة لإدارة شئون الأمة. لذلك فإن الدولة في الإسلام لا يمكن أن توصف بأنها دولة دينية لأنه لا توجد دولة دينية دون العصمة أو المعرفة النابعة من عالم الغيب أو من الوحي. الدولة في الإسلام إذن دولة دنيوية، قراراتها بشرية، واجبها تبني أقصى درجات الموضوعية والواقعية في تسيير شئون المجتمع، كما أن الحاكم في الإسلام، لا يستمد مشروعيته من قوة غيبية، بل هو فرد عادي يستمد ولايته من الأمة التي اختارته وكيلا عنها بمحض إرادتها وهو مسئول أمامها في الدنيا، فضلا عن مسئوليته أمام الله يوم القيامة. وحتى فقهاء السياسة المسلمون القدماء لم يشيروا إلا إلى هذه المعاني أثناء تعريفهم للسياسة الشرعية أو لوظائف الإمامة في الإسلام. لكن بعض كلامهم لم يفهم على وجهه الصحيح. فقد عرف أبو الحسن الماوردي الإمامة بأنها: موضوعة لتقوم مقام النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا. وقال عنها ابن خلدون: نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به ثم قال: وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي في أمته. ويمكن لتعبير خلافة النبوة أن يدخل غموضا في معنى الإمامة لدى هؤلاء الفقهاء. لكن طبيعة التصرفات النبوية بالإمامة تبين أن أولي الأمر يخلفون النبي في وظيفة يتصرف فيها ـ هو نفسه ـ بصفته الدنيوية، بممارسات سياسية اجتهادية ليس النبي نفسه فيها معصوما، ولا يخلفونه ـ بإجماع ـ في صفته النبوية التي تقتضي تبليغ الوحي والتي هو معصوم فيها. 2 ـ لقد اتخذت العلاقة بين الديني والسياسي في فكرنا المعاصر صيغًا مختلفة ومتناقضة. لكنها اتخذت في الغرب نفسه أشكالا متباينة على الرغم من وجود قواسم مشتركة. ولا شك أنه من الضروري الاستعانة في مجال بناء نموذجنا في التجربة الديمقراطية بتجارب الآخرين. فالتجارب السياسية الإنسانية أعطت الكثير لاستقرار شعوبها وعقلنة إسهامها في تسيير شئونها. والقراءة المتفحصة والمتفهمة للتجربة السياسية الغربية تمكننا من إبداع نموذج يحقق الانسجام بين الشرعي والوضعي، ويستجيب لحاجياتنا الخاصة ويمكن من إنجاز التوافقات حولها. وهذا يحتاج إلى إزالة القداسة عن الجوانب المتعلقة بالسياسة من الدين، إذا استثنينا المبادئ العامة والمقاصد الكبرى، والباقي بشري دنيوي بشرية ودنيوية التصرفات النبوية بالإمامة. فبالنسبة لأساس الشرعية، يجمع الفقهاء الدستوريون المسلمون، قدماء ومحدثين، على أنه يعود للأمة أو الشعب. وأكبر دليل على ذلك هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه توفي ولم يعين أو يوص لأحد بعده بالحكم. فترك الأمر للناس، ليس فقط ليختاروا الشخص الذي يريدون، ولكن أيضا بالنهج الذي يرتضون. وهذه سابقة دستورية ذات دلالة، لصدورها من الرسول نفسه. لذلك فالحاكم تختاره الأمة بالطريقة التي ترضيها، والبيعة عقد بين الحاكم والمحكوم أساسه الرضا التام، ودونه لا عقد. لكن الحاكم على كل حال واحد من الأمة ولي مسئولية الحكم، فلا امتياز له بذلك، ولا يتصرف إلا بما يقتضيه عقده مع الأمة. وقد استفاض العلماء قديما وحديثا في الاستدلال للمسألة، لكني اكتفي باستدلال للإمام الشافعي. فقد تحدث عن الحديث : ولا تقبل صلاة من أمَّ قوما وهم له كارهون... إلخ فاستنتج منه كراهية أن يؤم الرجل جماعة يكرهونه. ثم طرد هذا المبدأ إلى الجانب السياسي قائلا : وأكره للرجل أن يتولى قوما وهم له كارهون، وإن وليهم، والأكثر منهم لا يكرهونه، والأقل منهم يكرهونه، لم أكره ذلك إلا من وجه كراهية الولاية جملة . وهذا استدلال بديع، فكما أنه لا يجوز أن يؤم إنسان جماعة في الصلاة وهم له كارهون، فمن باب أولى ألا يجوز أن يحكمهم وهم له كارهون. والمشروعية في التاريخ الإسلامي كانت في الغالب تستمد من الأمة بصورة من الصور. فتأسيس الدولة يتم على أنقاض دولة أخرى لم تنجح في تدبير الشئون بتحقيق مقاصد العدل والاستقرار داخليا، أو عجزت عن الدفاع عن الثغور ضد العدو الخارجي (لم تستطع حماية بيضة الإسلام وأرضه). فيقوم من يستنفر لتدارك الأمر، وإقامة دولة تستطيع ذلك. فيجتمع حوله الناس ويعينونه. إنه هنا يستمد المشروعية من الأمة بمعنى من المعاني، ما دام قام ليدافع عن مصالحها. وهو في ذلك مثل الدولة القومية أو الثورية المعاصرة في العالم العربي، والتي كانت تستجيب ـ بمعنى من المعاني ـ لتطلعات شعبية إلى التحرر وقطع دابر التبعية، أو إلى العدل الاجتماعي. لذلك حازت تعاطفا واسعا في بداية أمرها، لكنها بفعل عوامل ذاتية وموضوعية تحولت إلى دول قهر واستبداد وفشلت في تحقيق التحرر والعدالة الاجتماعية. إن قيام المشروعية على الاستجابة لحاجات ضرورية للأمة، هو ما عبّر عنه بكونه قياما على مشروعية دينية، لكن ليس بالمعنى التيوقراطي، لكن بمعنى أن قيامها رهين بقدرتها على حماية الدين، وإعزاز أمة الإسلام. وبمعنى آخر أنها دولة مدنية، ذات مشروعية شعبية، مكلفة بحماية دين الأمة، كما أن الدولة الوطنية الحديثة، دولة مكلفة بحماية الوطن والدفاع عن مصالحه. وإذا كان هذا منطبقا على أساس الشرعية في الدولة، فمن باب أولى أن ينطبق على المقتضيات الدستورية الأخرى من مثل ضبط المؤسسات السياسية، وانتخاب المسئولين، وتحديد مدد ولايتهم، والعلاقة بين السلطات واستقلاليتها وغير ذلك. فهي كلها أمور تخضع للاجتهاد البشري. 3 ـ تاريخية التجربة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، وهي تجربة ظل الفكر الإسلامي المعاصر، السياسي والتشريعي، سجينا لها في كثير من الأحيان. إن التجربة الراشدية لا شك تجربة سامقة، لها في نفس كل مسلم الإجلال والتقدير. لكن هذا لا يجعلها تجربة تتجاوز الزمان والمكان والملابسات التي أملتها. فما دامت الممارسة السياسية النبوية نفسها نسبية، فمن باب أولى أن تكون التجربة الراشدية كذلك نسبية. وإذا كنا مأمورين بالاقتداء في مجال التصرفات النبوية السياسية بالمنهج العام دون الجمود على الأحكام الجزئية، فإن الاقتداء الذي أمرنا به للخلفاء الراشدين لا يمكن إلا أن يكون أيضا اقتداء بمنهجهم في التعامل مع كل نوع من التصرفات النبوية، وأسلوب تفاعلهم مع الواقع الإسلامي المتغير، وتنزيلهم للدين فيه. أما الأشكال المؤسساتية، والآليات الدستورية، والاجتهادات التشريعية والسياسية للفترة الراشدية، فإنها نتاج بشري محكوم بالسياق التاريخي والظروف الحضارية والمناخ الثقافي لعصرها. ويجب ألا تتحول إلى جزء من الدين يلزم به المسلمون على اختلاف عصورهم. والفكر السياسي البشري والمستوى الحضاري الإنساني كانت عنده مسلمات أثرت على فهم المسلمين للإسلام ونظامه السياسي. ولم تدعهم يحققون من مقاصده أكثر مما كان يسمح به المحيط الثقافي والحضاري الإنساني آنذاك، والقرآن وحي يأخذ منه الناس على قدر استعدادهم، ولن يستنفدوا مقاصده أبدا. وبعـد: إن كون الدولة في الإسلام دولة مدنية، تستمد مشروعيتها من مواطنيها، يجعل المسلمين منفتحين باستمرار لتطوير نموذج الحكم على حسب ما تبدعه البشرية من آليات ونظم، وقادرين على تمثيل النموذج الديمقراطي في أعلى صوره، بل وإغنائه بمبادئ وقيم تعطيه السمو الإيماني والعمق الاجتماعي والبعد الإنساني الواسع.