لا تنتج السلطوية استقرارا ولا نموا اقتصادياّ، بل كل ما تنتجه الجمود في السلطة والفوضى واستدامة التخلف وتوفير مبررات وفرص لتدخل العوامل الخارجية في توجيه مسيرة البلاد نحو المجهول، هذه الخلاصة قد تفسر الوضع المحرج للعديد من أنظمة الحكم الثالثية، وقد تفسر بشكل كبير الحالة السودانية بتداعياتها الداخلية والخارجية. تلك الخلاصة التي حملتها معي في حقيبتي وأنا أزور السودان متنقلا بين أركانه الجغرافية المختلفة، ورأيتها متحققة عن قرب في النموذج السياسي القائم، فالسلطوية تستحكم بخيوط البلد من كل جانب، وأخطبوط الجيش يخترق كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واستيلاء العسكر على السلطة في هذا البلد العربي المسلم ذي الامتداد المتجذر في إفريقيا باد للعيان، كما أن العائد الاقتصادي يوجه توازنات الحكم العسكري وتناقضاته التي لم يستطع السودان أن يخرج منها. ورغم توفر السودان على ثروات طبيعية هائلة، فإنها لحد الآن تبقى مجمدة وغير مستثمرة في تنمية البلد، فالنيل السوداني مادة خام لا يستغلها السودانيون في الفلاحة والتصنيع، بل إن السودانيين يعيشون على هامش النيل وبعيدا عن استثماراته الممكنة، مما يتعذر معه بروز الطبقة الوسطى، لأن هذه الأخيرة لا تتعايش مع السلطوية إلا إذا كانت مرتبطة به من خلال الجهاز الإداري الوظيفي، ولذلك فإن النفط يبقى هو المادة الحيوية في الاقتصاد السياسي للسلطوية، ومادة احتكار السلطة وتوزيع النفوذ على البلد، مما جعل الباحث والكاتب البريطاني المتخصص في القضايا الإفريقية ٍّمٌء مل ٌففط يؤكد بأن أسباب الحرب ترجع إلى السلطة، والموارد، والإيديولوجيات والهويات، وتقاسم السلطة السياسية والموارد الاقتصادية (خاصة النفط)، وهي التحديات الرئيسية في هذه الحرب منذ عقدين من الزمن، وبطبيعة الحال بما تتطلبه من استقطاب كل المواقف وكل الهويات. من هذا المنظور فإن النفط السوداني يشكل بؤرة التوترات المختلفة في الحالة السودانية، برؤى تختلف بحسب اختلاف مصدر الأزمة، فحين يكون مصدر الأزمة السلطة ذاتها، فإن المنطق المتحكم هو النفط باعتباره راعيا للسلطوية وإسهامها في استمرارها والتحكم في مسارات البلد المفتوحة على كل الاحتمالات، فلا مجال والحال هذه للتنمية والتحديث المجتمعية، وخلق حركة تصنيع مضطردة، لأن ذلك غير مقبول من زاوية معادلات السلطة والثروة. ما يلفت الانتباه، هو ذلك الحضور الصيني الكبير الذي يستثمر في النموذج السلطوي السوداني القائم بشكل فاعل، كيف لا وهو الذي خبر التعايش بين الحكم الإمبراطوري والنفوذ الاقتصادي العالمي، ولذلك فإن تناقضات الحراك الصيني في السودان تكثفها معادلة النفط مقابل السلاح، وشيء من التصنيع الذي يوفر قدرات السلطة في النفوذ والاستحكام. هذا المعطى الأخير يفسر، إلى حد كبير، الاندفاع الغربي نحو السودان، وخاصة من قبل الأمريكيين، وآخرها دفع المحكمة الجنائية الدولية إلى استعادة النموذج العراقي في السودان، باتهام البشير بمسؤوليته عن جرائم ضد الإنسانية في دارفور، وهي التهمة التي وإن صحت فإنها لا تقل بشاعة عن بشاعة الوجه الأمريكي في دارفور؛ الذي تبقى مؤسساته الدولية والإنسانية الشريكية شاهدة على الوضع الإنساني المتدهور في دارفور. لكن الشعار الأمريي كما هو معروف يحمل في طياته دراماتيكية أخطر من ذلك النفوذ البراكماتي للصينيين، إنه شعار النفط مقابل الاستقرار، خاصة مع إمكانيات تحريك المسيحيين في الجنوب، والاستثمار في الرصيد الاستعماري البريطاني من خلال سياسة فصل شمال السودان عن الجنوب التي قادتها بريطانيا، الهدف منها بلورة مواقف متضاربة ومتصارعة حول دور الإسلام والعربية في مستقبل السودان كأمة، ثم استغلال ورقة دارفور لصالح إعطاء بعد حقوقي دولي للمعضلة السودانية الداخلية، ومن ثم التحكم في خيوطها، دعما للمعارضين وتحريكا للطوق الإقليمي ضد السودان. وإذا كانت دارفور مملكة النفط الإفريقي فإن تهجير سكانها في مصلحة الجيش من جهة، والولايات المتحدة التي لا تنظر إلا إلى قاع دارفور وليس إلى سكانها وأهلها، مما يجعل من خلفيات المعضلة السودانية في الجنوب والشرق (دارفور) متصلة بالرغبة في توزيع ثروة البلد وتقسيمها، بما يضمن استقراره، ومن ذلك أيضا ضغوطات الخارج لإدماج السودان في خطاطة التقسيم الدولي للعمل ضمن المنظومة الرأسمالية؛ التي لا يزال السودان عصيا عن إدخاله إليها، وفتح السوق السودانية أمام الاقتصاد العالمي الأوربي والأمريكي. يعيش السودان إذن وضعا لا يحسد عليه، فبالإضافة إلى أزمة نموذج الحكم، تتحول الصراعات الداخلية بمطالبها الأساسية في توزيع الثروة والسلطة، وهو نموذج يجعل من الديموقراطية ليس آلية لتدبير الحكم ولكن مطلبا من أجل الخبز، خاصة وأن تقاليد الحكم لم تسمح ببروز وعي سياسي ديموقراطي، وتتعقد الأمور حينما تأخذ الصراعات أبعادا دولية ضمن الاستراتيجيات الكبرى للقوى العظمى. وفي المقابل فإن الوعي المجتمعي في السودان؛ الذي يتميز بمحافظة دينية متجذرة، وبحفاظه على بنياته التقليدية الأساسية؛ يجعله أكثر تماسكا وأقدر على الاستمرار رغم مآسي السلطة والاقتصاد، ويجعل من الإخضاع الأجنبي عصيا وغير ممكن بسهولة، خاصة وأن ديناميات الفعل الإسلامي الجبهوي كان لها دورها في تعميق حالة التدين العام وإكسابها نفسا حركيا كبيرا، لكنها لم تنته نحو إكسابه نموذجا سياسيا يتسم بالحكم الديموقراطي والعدل السياسي، وفي ضوء هذه المفارقة الصعبة بالنسبة لدور الإسلاميين في واقع البلد، فإن السودانيين يفضلون السلطوية والجوع على تدخل الأجانب والتأثير على هويتهم وبنيانهم الاجتماعي. والصراحة تتطلب أن نقول إنه قد حان لمركب السلطة أن يدرك الحاجة الملحة إلى تكريس الديموقراطية في الحكم والتخلص من عقدة الهيمنة العسكرية، والتعاطي بمصداقية مع الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في السنة المقبلة، وذلك بإشراك جميع الفاعلين الأساسيين في البلد، وإعطاء الشعب الفرصة للتعبير عن إرادته وصوته بشكل حر ونزيه، وإعداد الموقف الشعبي لتقبل نتائج الديموقراطية والانفتاح على العالم، انطلاقا من النموذج الهوياتي والحضاري المستقل، لأنه الظروف الصعبة التي يدخلها السودان اليوم إن لم تسمح السلطة بالتغيير الديموقراطي السلس؛ فإن بركان السودان سيبقى مفتوحا على جميع الاحتملات.