في السياسة كما في التجارة، ليس مطلوبا منك أن تنتج سلعة جيدة فقط، بل لابد لك أن تعرف كيف تسوقها، وأن تقنع المستهلك بجودتها بل وبالحاجة إليها، وإلا فلا قيمة لأي سلعة أكانت مادية أو رمزية، اقتصادية أو سياسية، إذا ظلت مجهولة في المخازن المقفلة أو الإدارات ومراكز صنع القرار البعيدة عن معرفة الناس أو الرأي العام. لا أعرف نظاما اختار «الانفتاح» السياسي والتعددية الحزبية واتساع الهامش الديمقراطي كوسيلة لاكتساب الشرعية في بلاد لا موارد فيها لتغطية الخصاص، يختار فتح «حرب مفتوحة» على صحافة بلاده وعلى قناة مثل الجزيرة. لا أعرف نظاما يُضعف مكامن القوة القليلة في جسمه مثل ما يفعل صناع القرار اليوم في محيط الملك محمد السادس. لقد فتحت الدائرة الضيقة في محيط القصر حربا على الصحافة المستقلة وعلى قناة الجزيرة. لا يمكن لعاقل أن يرى لها من مبرر ولا من مكاسب سوى حصد خسائر كبيرة ستؤدي صورة البلد ونظامه السياسي ثمنها غاليا في المستقبل... لقد أبعد نظام الحكم مسؤولين كانا على علم واطلاع بأسلوب التعاطي مع الصحافة والإعلام.. شخصان أتيحت لهما فرصة ممارسة الصحافة والاحتكاك بوسائل الإعلام، ومعرفة حاجة كل بلد إلى عملية تسويق صورته. الأول هو المستشار المخضرم أندري أزولاي الذي اشتغل في أكثر من وسيلة إعلامية، وكان ولا يزال على علاقة مع قادة الرأي في وسائل الإعلام الأوربية والأمريكية، والثاني هو الناطق الرسمي السابق باسم القصر حسن أوريد، الذي كان كاتب رأي في أكثر من صحيفة مغربية وعربية، وعاش لفترة في أمريكا، ويعرف قيمة وسائل الإعلام في الأنظمة الحديثة... كلا المسؤولين، رغم ما بينهما من اختلاف، خرجا بهذه الكيفية أو تلك من دائرة التوجيه السياسي لقرارات المملكة في مجال الإعلام، وحل محلهما أربعة أصناف من المسؤولين: الصنف الأول أمني (الداخلية، المخابرات العسكرية...)، والثاني اقتصادي، والثالث قضائي، والرابع «صحافي» محسوب على المهنة لكن دوره هو قتل روح المهنة. المتحكمون اليوم في المشهد الإعلامي هم: الهمة وامزازي وشكيب بنموسى في الداخلية، وياسين المنصوري في المخابرات العسكرية، ومنير الماجدي الذي يدير الشأن الاقتصادي في المملكة، والطيب الشرقاوي الذي يتحكم مع غيره في مسلسل محاكمات الصحافة، ومحمد الخبشي وفيصل العرايشي وسميرة سيطايل، وغيرهم من المحسوبين على الصحافة والذين يقدمون «خبرتهم» للأصناف الأولى من أجل خنق الصحافة المستقلة والتحكم في وسائل الإعلام، حتى لا تخرج عن مراقبة الدولة، وتظل الدعاية للدولة هي المسيطرة على ما يقدم إلى الناس من مادة صحفية. هذا الفريق بقدر ما نجح في توريط القصر في معارك خاسرة مع وسائل الإعلام المستقلة في الداخل والخارج، فإنه فشل في صناعة إعلام مهني حتى وإن كان محسوبا على الجهات الرسمية، فمثلا جاء إقفال مكتب الجزيرة في المغرب ليس لأن إدارته لم تحصل على ترخيص من «الهاكا»، ولكن لأن مؤسسات لقياس المشاهدة في المغرب أخبرت السلطات بأن الرأي العام في المدن بدأ يتابع نشرة الجزيرة المغاربية بنسبة مطردة تهدد في المستقبل بالتفوق على القناتين الأولى والثانية المغربيتين... هنا تحركت يد الرقيب الذي فرض على مكتب الجزيرة إقفال نشرته، ولما قاومت القناة هذا القرار السلطوي، جاءت محاكمة حسن الراشدي كانتقام من رد فعل الجزيرة... تصلني دعوات على مدار السنة من سفارة أمريكا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا... إلى لقاءات تواصلية مع سفرائها في المغرب وخارجه، وكل مرة أتساءل مع نفسي: لماذا يسعى سفراء هذه البلدان القوية إلى تحسين صورتها في أعين الصحافة المغربية ولا يفعل نفس الشيء مسؤولو بلدي، الذين لا يزهدون فقط في التواصل الإعلامي مع صحافة بلادهم، بل يسعون إلى حربها وتخريب مؤسساتها والتآمر على تجربتها التي ينظر إليها في الخارج على أنها علامات صحية عن انتقال ديمقراطي واعد بالمغرب، وينظر إليها من قبل السلطة هنا على أنها وسائل لتدمير الدولة، أو بالأحرى لتدمير قسمة الثروة والسلطة كما هي لا كما ينبغي أن تكون...