تزداد حيوية إفريقيا الشمالية بالنسبة لمصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية يوما عن يوم، وهي منطقة تبرز اليوم كمحور جهوي في مجموع التعاملات. فالمنطقة مزوِّد مهم للطاقة وجبهة مركزية في الحرب على الإرهاب؛ على الرغم من كون الأنظمة الحاكمة في المنطقة تبقى مستعصية على الإصلاح وغير راغبة في اقتسام السلَط والموارد الاقتصادية بين مكونات المجتمع، ولا هي راغبة في تطوير أي مشاركة سياسية. وعلى الرغم من توزيع الثروات لا يزال يثير أسئلة دالة حول مدى القدرة على استمرار الاستقرار. بما أن الولاياتالمتحدةالأمريكية وإفريقيا الشمالية آخذتان في التقارب أكثر في العديد من المجالات؛ فإنه من المحتم جدا القيام بدراسة تقديرية عميقة للنَّزَعات المعقدة والتطورات الجارية في المنطقة لفهم كيف وما مدى تأثيرها على دول المغرب العربي:المغرب، والجزائر، وتونس، وليبيا. وفي مسعى منه لفهم أعمق لهذه الميول والنزعات، كان برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات والاستراتيجية الدولية قد عقد يوما دراسيا بواشنطن في يوم السابع عشر من يناير ,2007 ضم قادة ورجال سلطة من مختلف دول العالم مع خبراء في الاقتصاد، والسياسة، وعلم الاجتماع، وشؤون الأمن. نقط رئيسية لقد أثبتت المؤسسات الرسمية في دول المغرب العربي مقدرة لافتة على الصمود والاستمرار ومقاومة الصدمات والتحديات مهما كانت. وليست هناك أي مؤشرات على أن هذه الحكومات وشيكة السقوط. ولقد استطاعت هذه الأنظمة أن تحتوي أو تقمع المعارضات الإسلامية لحد الآن بفعالية. لقد استعملت الحكومات قوانين انتخابية على المقاس؛ لتقسيم القوى السياسية وتفريقها، ولتوجيه الانتخابات نفسها بما يضمن الحد من صعود الإسلاميين ومن زيادة تمثيليتهم في البرلمانات.إن التوثرات الاجتماعية تتزايد أكثر فأكثر في كل المنطقة والشعوب تزداد معارضة للأنظمة. والإرهاب تحدٍّ جسيم جدا؛ ولكنه لا يهدد أي نظام في إفريقيا الشمالية.بل بالعكس فالتهديد الإرهابي هو الذي يُشرعِن لتدخل السلطات الأمنية في الحياة السياسية والعامة. والحقيقة أن العلاقات الدولية بين مختلف الجماعات الإرهابية أمر مبالغ فيه، وليس هناك أي دليل على وجود حركة إرهابية واسعة في المنطقة. إن الإسلام قوة تعبوية هائلة؛ ولكن أهم انشغالات أغلب شعوب المنطقة هي العثور على الشغل، والتربية والتعليم، والسكن، ومحاربة الرشوة. والمغرب العربي يتوفر على طاقة اقتصادية هائلة غير مستغلة وعلى سوق مهمة وجذابة من حوالي مائة وخمس وعشرين مليون نسمة. وكذلك فإن ارتفاع نسبة البطالة، وتخلف أنظمة التعليم، بتضافرها مع مسألة الشفافية و غياب حماية الملكية الفكرية؛ كلها تضع تحديات حقيقية لأي تطور على الأسلوب الغربي. وفي نفس الوقت فإن الاهتمام البالغ والاستثمارات القادمة من الخليج، وروسيا، والصين من شأنها أن تغير حسابات دول إفريقيا الشمالية وتحولها عن تبني النموذج الغربي في التعاملات.وكما لازالت دول أوروبا الغربية تعاني حد الانهيار من الهجرة اللاشرعية التي تعود أساسا إلى الانشغالات الأمنية وتدفق أعداد كبيرة من مهاجري دول أوروبا الشرقية؛ فإن دول إفريقيا الشمالية آخذة يوما عن يوم في فقدان صمام الأمان الذي استندت عليه طويلا في تدليل توثراتها الاجتماعية. إصلاح سياسي أو... إن غياب الإصلاح السياسي في كل دولة من دول المنطقة يزيد من تعميق الهوة بين الدولة والمجتمع كما يقول دجون آنتيليس من جامعة فوردهام. إن الاستياء والغضب من الأساليب السلطوية المتبعة والمُتَشَبَّث باستمرارها يزدادان عمقا.والحركات الإسلامية تبدو هي الأكثر تعبيرا عن هذا الغضب الشعبي، وهي ليست مع ذلك ذات صراع بين القوى العلمانية والدينية؛ وكل نظام في المنطقة يرى من الضروري والحتمي التعامل بكياسة مع الإسلام. وفي المغرب على الخصوص؛ فإن الصفة التي يحملها الملك ك أمير المؤمنين و مهارته في إبراز نسبه للنبي تمنحه وضعا خاصا في هذا السياق.أما تونس فقد اتخذت سبيلا مغايرا؛ بما أنها تتوفر على رصيد علماني أعمق بكثير. ومع ذلك فالحكومة قد صارت أكثر مصالحة مع الممارسات الدينية التي أصبحت تعرف صحوة حقيقية. وكل حكومات إفريقيا الشمالية أصبحت تبحث عن تدعيم مصداقيتها عن طريق بناء المساجد و بث البرامج الدينية على شاشات التلفزة وأمواج الإذاعة. وفي عضون ذلك فهم يسعون جميعا إلى التحكم في المجال الديني عن طريق التحكم في الوظائف الدينية والتأثير في الخُطَب؛ إذا لم يكن مراقبتها. ويؤكد أغلب المتحدثين على أن العودة إلى الإسلام في الحياة العامة؛ تبدو ردا سياسيا جماهيريا أكثر منها صحوة دينية، ويرى دجون آنتيليس أن تكتيكات الأنظمة في هذا الاتجاه أثبتت أنها تعطي دائما نتائج عكسية تماما. فهو يؤكد أن قصر نظر الحكومات هذا في العمل على التضييق على قوى المعارضة أو احتوائها بهدف الاحتفاظ بالسلطة كاملة انتهت دائما إلى الفشل الذريع ولا يمكن الرد على الاحتجاجات السياسية الكبرى إلا بمشاركة سياسية حقيقية وأصيلة. وترى مليكة زغال من جامعة شيكاغو أن الحكومات في المنطقة قد ابتدعت خلال العقد الأخير نوعا جديدا من الاستبداد مع إعطاء الانطباع بإحداث تغيير وإصلاح سياسي بدون أي انتقال للسلطة. وتؤكد زغال أن هذا الابتكار بدى أكثر وضوحا في المغرب؛ حيث نظمت السلطات ببراعة نادرة انتخابات مزورة غير مشكوك في نزاهتها؛ فالنظام قد رتب انتخابات أسفرت عن حكومة قوية غير منتخبة وبقوانين استبدادية بالكامل تقريبا. فأمام تحدي الحركة الإسلامية فتحت الملكية مسلسلا انتخابيا؛ مع ضمان تكييف نتائج موَجَّهة في نفس الوقت. وعوض تفويت سلطات إلى قيادات منتخبة؛ قررت أن الانتخابات المغربية يجب أن تفيد دائما في ترسيخ تحكم دائرة المحيطين بالملك وتفريق المعارضة إلى من هم يعملون من داخل النظام ومن هم خارج النظام ومن تم ترسيخ سلطات الملكية. ويلتقي المغرب والجزائر معا في هذا التقسيم المزدوج للمعارضة. فقد أدمج النظام المغربي جزءً من الحركة الإسلامية؛ متمثلا في حزب العدالة والتنمية؛ الذي قبل باللعبة السياسية.بينما في نفس الوقت فإن الحكومة أقصت الحركة الأكثر شعبية والتي ما تزال غير معترف بشرعيتها العدل والإحسان؛ التي لا تعترف بشرعية الملك، والتي تقرنها الحكومة المغربية بالعنف السياسي.وبتصرفها هذا فإن الحكومة المغربية قد قسمت المعارضة الإسلامية إلى قسمين. وفي نفس الوقت يستعمل النظام التهديد القادم لحزب العدالة و التنمية للضغط على الأحزاب الوطنية العَلمانية. وهكذا بتواطيء مع هذه الأحزاب؛ قام النظام بإعادة التقطيع الانتخابي قبيل انتخابات 2007؛ بحيث ضمن أن لا يحصل أي حزب على الأغلبية من الأصوات، كما ضمن أن تنتج عن تلك الانتخابات تحالفات برلمانية تدعم صلاحيات الملك وسلطاته. وكذلك فالجزائر لديها ثلاثة أحزاب سياسية إسلامية (حركة مجتمع السلم، وحركة الإصلاح الوطني، وحركة النهضة). ولكن لا واحدة منها تملك القدرة على تحدي ومواجهة أسس النظام. ومن المثير للاهتمام أن الحكومات قد تمكنت من ابتداع سبل أكثر نجاحا مما فعلته المعارضات في شمال إفريقيا خلال السنوات الخمس الماضية. وعلى الخصوص فإن فشل الحركات الإسلامية في تغيير الجمود افقدها بشكل ما الكثير من مصداقيتها وجعل من الصعب عليها جدا تعبئة المتعاطفين معها. وعوض أن يرى في هذا نجاحا للحكومات فإن دجون آنتيليس يرى في ذلك أمرا مزعجا ومقلقا.فهو ينظر إلى الأمر كدليل على انعدام إمكانية الإصلاح من خلال العمل القانوني والمعارضة السلمية، ويعطي للرافضين للمشاركة مبررات التأكيد على صحة اعتبارهم بأن طرق التعبير السياسي القانوني ضيقة جدا ولا إمكانيه لها في الإتيان بأي نتيجة.ومن شأن هذه السلوكات من الأنظمة أن تؤدي إلى هجران العمل السياسي القانوني وتركه للأنظمة تستغله في مصالحها الشخصية والانضمام إلى معارضات غير شرعية أو اللجوء إلى القوة من أجل التغيير. فهو يرى أن أي خيار من هذا النوع لا يمكن أن يبشر بأي اسقرار في المنطقة على المدى الطويل. وتذهب كلير سبينسر من شاتام هاوس بروك إلى رأي أكثر تضييقا، فهي تؤكد أن الناس في هذه الحالات يتحولون ؛ إما إلى مخربين أو هامشيين. والهامشيون لا يدعمون الحكومات ولا يعارضونها. بل هم ينسحبون من الاهتمام بالسياسة وينفقون وقتهم في انتظار أن تلوح فرص أخرى للعمل السياسي وللتعبير عن أنفسهم. وهذا هو الخطر بعينه. الأمن والإرهاب في الولاياتالمتحدةالأمريكية أرخى الهاجس الأمني بظلاله على الحوار مع دول شمال إفريقيا فيما يخص التحديات الاجتماعية والسياسية. فالتلويح بخطر الجماعات السلفية الجهادية؛ مثل الجماعة السلفية للدعوة والقتال(ذسا) والجماعة الليبية على أنها فروع لالقاعدة قد زاد من حدة الترهيب.على الرغم من أن أهداف هذه الجماعات غير واضحة ولا دليل على ارتباطها ببعض. ولقد أجمع الخبراء على أن الادعاء بأن هذه الجماعات تشكل خطرا على اسقرار أنظمة دول شمال إفريقيا هو ادعاء مبالغ فيه. وقد دعى المتدخلون للتحلي بالحذر عند الحديث عن طبيعة التهديد الإرهابي في شمال إفريقيا، واتفقوا على أنه في الوقت الراهن لا يوجد أي دليل على علاقة لوجيستيكية ما في المنطقة بين الجماعات المذكورة. فتشكيل وأهداف الجماعات السلفية الجهادية تبقى مرتبطة إجمالا بكل دولة على حدة. بل إنه حتى داخل كل دولة يمكن أن توجد أهداف واعتبارات مختلفة. في المغرب، فإن الشبكات الإرهابية غير مركزة، و توجد بالخصوص في بعض الفضاءات الخاصة؛ مثل بعض مدن الصفيح بالدار البيضاء، وبعض الأماكن في منطقة الريف بشمال البلاد.ومنطقة الريف بالمغرب مثلها مثل منطقة القبائل بالجزائر شكلت لمدة طويلة جدا بؤرة معارضة للسلطة المركزية. ولقد وجد المستقطبون للجهاد في العراق أرضية خصبة لدى الشباب المغربي الذي لا يرى له أي مستقبل في بلاده. وعلى خلاف الجهاديين في المغرب وتونس فإن جهاديي الجزائر يتوفرون اليوم على رصيد طويل من المعارضة المسلحة.وأكبر تهديد يتمثل في الجماعة السلفية للدعوة والقتال التي تعود جذورها إلى الجماعات الجزائرية المقاتلة التي انطلقت في بادية التسعينات من القرن العشرين بعد أن ألغت الحكومة العَلمانية الانتخابات التي فاز فيها الإسلاميون. وكانت جهود ضخمة قد بذلت من طرف قوات الأمن الجزائرية لقمع الجماعة السلفية للدعوة والقتال رافقتها دعوة للمصالحة الوطنية أغرت بعضا من قادة الجماعة بالعودة للاندماج في المجتمع؛ مما شل التنظيم. وقد رفض مجموعة من الشباب الراديكاليين الأفكار المعتدلة وحولوا ما تبقى من النتظيم إلى تنظيم القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي. وحسب ليان كينيدي-بودالي من مؤسسة راند فإن استراتيجية تغيير الإسم إلى القاعدة تهدف أساسا إلى الرغبة في البقاء عن طريق التحول الإيديولجي. فالتنظيم يبدو مهتما بالبقاء مستمرا في خياراته أكثر من اهتمامه بأي مهمة أخرى. وعلى الرغم من تغيير الإسم فليس هناك ما يدل على أي مستوى من الدعم أو التنسيق مع القيادة المركزية للقاعدة. مع أن تغيير الإسم كان من شأنه أن يمد التنظيم بشبكة جديدة من الدعم والمساندة. ثم إن تنظيم القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي قد أحرق مراحل كثيرة بدخوله في صراعات شخصية واستهدافه للمدنيين. وعلى الرغم من الهجمات الأخيرة ذات الطبعية النوعية العالية في احترافيتها؛ وعلى الرغم من تتابعها بشكل متصاعد؛ إلا أن كل ذلك يدل فقط على أن التنظيم يقوم بكل مايقوم به من أجل البقاء والاستمرار فقط. وكذلك فإن استمرار المعارضة القوية للدولة يعني أن تنظيمات مثل تنظيم القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي تستطيع في الغالب الحصول على شبكات للإيواء والدعم. والجماعة تحافظ كذلك على علاقات مودة مع المهربين وعناصر إجرامية أخرى. ويبقى هذا التنظيم سواء في اسمه القديم أو الجديد تنظيما جزائريا محضا بشكل واسع مهما غير من أهدافه. والادعاء بكون التنظيم مغاربي؛ هو ادعاء مبالغ فيه جدا؛ على الرغم من عمليات تونس في شتاء .2006/2005 فالجماعة لم تتبن إلا عملية واحدة خارج الجزائر: سنة 2005 عند مهاجمة مركز عسكري بموريطانيا. ومع أن المنظمة قد أشارت إلى أروبا كأهداف خارجية للهجوم إلا أنه لم تتم لحد الآن أي عملية مرتبطة مباشرة بالمنظمة. وشكك المتدخلون في الأطروحة التي تقول إن التنظيم قد وجد في منطقة الساحل الإفريقي ملاذا آمنا، مستدلين على خطإ هذا الطرح بكون السكان في تلك المناطق من عادتهم التوجس جدا من الأغراب. وأن التضاريس الأرضية الصحراوية المفتوحة والكثيرة الأشواك لا توفر أي إمكانيات للمتمردين. ومع ذلك فهناك تعاطف متزايد من قبل الناس مع التفسيرات الراديكالية للإسلام التي يدعو لها تنظيم القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي. وعلى الرغم من كون هذا التعاطف يبقى لدى أقلية؛ فإنه يرسخ ميلا يزداد توسعا للغضب والرفض في إفريقيا الشمالية. وتؤكد ليان كينيدي-بودالي أن الحركات الجهادية تجتذب الشباب من خلال بعض الخيارت. وهناك المئات؛ إن لم يكونوا آلافا قد ذهبوا للقتال في العراق، وإمكانية عودتهم متوفرين على شبكات، وتجربة، ومواهب للإبداع التكتيكي تطرح تحديات حقيقية في المستقبل. وحذر المتدخلون من أن التأكيد على أمن الولاياتالمتحدةالأمريكية في التعاون مع حكومات شمال إفريقيا قد تكون له نتائج عكسية.فذلك قد يؤدي إلى إعاقة الإصلاحات السياسية وإلى إيجاد أنظمة هشة قد تكون غير قابلة للاستمرار طويلا. وقد حذر روبيرت هيو من أنه يبدو هناك شرخ عميق جدا بين أصحاب القرار في الجزائر قد يؤدي بتضافر مع الإرهاب وأنواع خاصة من الضغوط الأجنبية إلى عودة الصراعات الدموية لعقد التسعينات، وإلى زعزعة استقرار النظام. وقد أجمع أغلب المتدخلين على أن القوى الأجنبية تركز اهتمامها في الجزائر فقط على الجوانب الأمنية؛ بينما تتركز اهتمامات المواطنين الجزائريين على المشاكل السوسيو-اقتصادية؛ مثل الشغل، والتعليم، والصحة، والسكن، والرشوة. والنتيجة أن هناك شعورا بالامتعاض من التدخل الأجنبي؛ خصوصا في الجزائر. وقد دعى أغلب المتدخلين إلى ضرورة إقامة علاقات ثنائية متوازنة مع دول المنطقة مع تركيز أكبر على جوانب التنمية الاقتصادية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ نظمت تلك الندوة بدعم مالي سخي من يونير للموارد الطبيعية وأيلي ليلي وشركة أيني ومؤسسة تاليسمان للطاقة، وذلك أواسط يناير الماضي.