لم يكن إعصار تسونامي الذي اجتاح عشرات البلدان وبلغت أمواجه من الارتفاع والعتو أن استوت بسفن على رؤوس الجبال وابتلعت في ثوان عشرات الآلاف من البشر والحيوان والمباني فاختفت جزر وظهرت أخرى .. لم يكن سوى جزء من مزاج هذه المرحلة التي يمر بها العالم وصورة تجسم حالة الاضطراب والتقلب والقلق بحثا عن مستقر جديد للعلاقات الدولية وللقيم الاخلاقية والانظمة السياسية بعد تآكل واهتراء أسس النظام القديم الذي قام من جهة القيم على أساس فكرة استقلال عقل الانسان وعلومه وتقنياته وكفايته بتفسير قوانين الكون والحياة وتدبير شؤونهما، بما يضمن التقدم الدائم والسعادة للجميع دونما حاجة الى إله ونبوة ووحي وعون من الله. ومن جهة العلاقات الدولية قام العالم الحديث الذي يهتز اليوم بتأثير أكثر من تسونامي، على توازن الرعب بين المعسكر الشرقي والغربي المشتركين في نفس الاساس الفلسفي المادي المذكور.. وفي ظل ذلك التوازن أمكن قيام ما يسمى بالعالم الثالث بعد حصول دوله -مستفيدة من ذلك الصراع- على استقلالها، وعمليا انحاز بعضها الى هذا المعسكر وذاك الى المعسكر المقابل بما ضمن لها أقدارا من الاستقرار والتمتع بالدعم على ما هي عليه، إذ المهم ضمان ولائها. إن انهيار المعسكر الاشتراكي كان بمثابة تسونامي حضاري سياسي ظلت آثاره تتسع دوائرها بدء بالمناطق الاقرب الى مركز الزلزال مثل أنظمة اروبا الشرقية والوسطى وهي اليوم تهز أقطار آسيا الوسطى، وأخذت آثارها تطال البلاد العربية التي تأخرت فيها آثار الزلزال بسبب بعض الخصوصيات مثل مسالة الطاقة ووجود الكيان الصهيوني ومسألة الحرب على الارهاب وهي كلمة مهذبة للحرب على الاسلام : الايدولوجيا التي تبنتها القوة المنتصرة بديلا عن الحرب على امبراطورية الشر استبقاء للتعبئة، وبتأثير جماعات الضغط الصهيوني النافذة والاشد عداء للاسلام وتحريضا عليه. استظلت أنظمة المنطقة واحتمت خلال عشرية التسعينيات التي تلت انتهاء الحرب الباردة من رياح التغيير وأثر الزلزال، بالاندراج في استراتيجية المتغلب : الحرب على الارهاب، والسعي للتطبيع مع الكيان الصهيوني وتأكيد الاستعداد لضمان تقديم النفط بشكل منتظم وبأسعار مناسبة، غير أن تسونامي آخر ضرب العالم في راسه، فهز كيانه هزا عنيفا جدا تمثل في حدث 11سبتمبر، وجاء في وقت اعتلى فيه عرش قيادة العالم فريق جديد يتلمظ لاستخدام القوة القصوى لفرض مخططاته التوسعية الهيمنية سلطة منفردة في قرن أمريكي جديد، فكان الفرصة السانحة التي يبحث عنها صقور اليمين المحافظ، ليطلق العنان لقواه الغضبية الهائجة ناشرا أساطيله وقواعده يملأ بها البحار وكل أقطار العالم، مبادرا خلال بضعة أشهر الى احتلال افغانسان، وفي السنة الموالية العراق غير أن فرحة النصر وحفلاته سرعان ما انفضت وتبخرت وكأن الحرب الحقيقية على الغزاة بدأت يوم سقوط الدولة حيث تسلم العشب قضيته بيده بعد أن نفض عنه كابوس الاستبداد.. ووجد المنتصرون أحلامهم تتبخر تحت شمس عراقية محرقة وسرعان ما تحول العراق من حلم الى كابوس ومن منطلق لأحلام الهيمنة الى فخ البقاء في قبضته مشكل والهروب منه مشكل أعظم. لم يعد مهما لدى المنتصرين نوع عقيدة من يتعامل معهم المهم أن يقبل التعامل. لقد امتحنت على الارض كل التنظيرات حول الاصولية فلم يصمد فيها غير البعد البراغماتي. وبعد أن تبخر كل أمل في الضفر بأثر يدل على وجود أسلحة دمار شامل وهو الاساس الذي تأسست عليه كل ايدولوجية الغزو لم يبق أمام المأزق السياسي والعسكري غير البحث عن إيدولوجيا أخرى لتسويغ الغزووللتعامل مع جماعات أصولية ومراجع دينية غير تبني إيدولوجية نشر الديمقراطية في العالم والسعي لاتخاذ العراق نموذجا. غير أن تفجر المقاومة جاء ليعزز شعار نشر الديمقراطية عنوانا للغزو، بما يجعل كل خطوة صوب الديمقراطية في المنطقة مهما كانت صغيرة يقع تخريجها أمريكيا أنها أثر من آثار الغزو وثمرة من ثماره. وهو ما أخذ يفرض على أصدقاء الولاياتالمتحدة في المنطقة وهم في مجملهم حكام دكتاتوريون أن يسهموا في تقديم الغطاء لمأزقها في العراق من خلال الاقدام على اصلاحات ديمقراطية تجعل لاحتلال العراق معنى هو نشر الديمقراطية في المنطقة، لا سيما وأنه بعد أن ذهبت أو خفت فورة الغضب الامريكي وتراجع معه جواب عن سؤال لماذا يكرهوننا؟ لأننا أثرياء وديمقراطيون، تراجع لصالح أجوبة عقلانية من مثل: لأننا منذ ستين سنة ونحن ندعم أنظمة لم تترك سبيلا لقهرهم إلا سلكته فكان زلزال 11سبتمر إفرازا من إفرازات غضب تلك الشعوب وإذن فلا سبيل للقضاء على الارهاب بالوسائل العسكرية كما صرحت بذلك رئيسة الدبلوماسية الامريكية خلال زيارتها للعراق داعية الجميع الى الاشتراك في العملية السياسية سبيلا وحيدا لوقف الارهاب! لقد تغير اتجاه الريح في التعامل بين أمريكا وأصدقاءها في المنطقة فبعد أن كانوا يخيفونها بالأصوليين بل ويبتزون مساعداتها ويشترون في الاقل صمتها انقلب السحر على الساحر، فانتزعت السلاح من أيديهم وأشهرته في وجوههم: نحن مع الديمقراطية حتى ولو أتت بالاسلاميين أليس حكام العراق اليوم اسلاميين ومن قبلهم حكام تركيا ..وحتى لو حملهم الى السلطة تدين متشدد فليس أمامهم من سبيل ليستمروا في عالم مقاليد الامور قبضتها بأيدينا إلا أن يتكيفوا أو يطاح بهم كما فعلنا بطالبان. ولكي تدفع التحدي والابتزاز الى أعلى درجاته وجهت الدعوة الى الاسلاميين للحوار وسارع الاوروبيون الى منافستها فمادت الارض تحت أقدام الأصدقاء وزاغت أعينهم تبحث عن مخرج وهم يرون الانظمة تتساقط كأوراق الخريف فيما يشبه المهرجانات الاحتفالية. لم يهتدوا الى حيلة وملجإ من شبح الكابوس الديمقراطي الذي يلاحقهم غير التوسل لا بالصالحين كما كان يفعل الاجداد إذ يداهمهم خطب جلل وإنما بالقناة الاقرب الى القلب الامريكي القناة الاسرائلية فتزاحم العربان على العتبات المقدسة عتبات شارون يدعونه سرا وجهرا للمسارعة بإنقاذهم. يطرحون مقايضة التطبيع بديلا عن الديمقراطية؟ أجابت أمريكا: بل نريدهما معا. فلم يجدوا بدا من أن يحاول كل منهم أن يدفع شر أمريكا بالتظاهر أنه بدأ فعلا مسار التحول الديمقراطي بالتنازل عن شيء من سلطاته يقدر أنه تافه ولا يمس جوهر السلطة ولكن مع النفخ الاعلامي فيه يمكن أن ينشر في الجو رايات للديمقراطية تصلح للامريكان شاهدا مقنعا لدى شعوبهم بأن ما بذلوا ويبذلون من دماء وأموال في العراق قد بدأ يؤتي ثماره على امتداد المنطقة أنتخابات بلدية هنا واستفتاءات هناك وسماحا للنسوة بالمشاركة السياسية.. وكل ذلك مندرج ضمن مصلحة الامن القومي الامريكي الذي اهتز بسبب غياب الديمقراطية في المنطقة. غير أن السؤال الملح : هل الامريكان جادون في استراتيجية نشر الديمقراطية في أرجاء آخر قلعة للدكتاتورية في العالم؟ هل تخلصوا فعلا من المقاييس المزدوجة، فيلوحون بالعصا الغليظة في وجه سوريا وإيران، بينما هم مترددون في مصر ومتقاعسون في تونس وموريطانيا. أما في أوزباكستان فيبلغ موقفهم إزاء انتفاضتها حد التواطئ مع دكتاتور متأله أوقع بمدينة أنديجان مذبحة تنتمي لعصر نيرون وستالين، خلافا لموقفها من انتفاضة أو من أوركاسترا الانتفاضة في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا. هل نحن إزاء نفس القصة: تعدد المكاييل باختلاف المصالح؟. راشد الغنوشي