قد لا تكون المرارة والخيبة النتيجتين الوحيدتين اللتين حصدهما رئيس جورجيا الأمريكي الجنسية، تشكاسفيلي من جراء انزلاقه إلى حرب ضد اوسيتيا الجنوبية معتمداً، ربما، على تشجيع أمريكي حملته إليه وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة، كونداليزا رايس، خلال زيارتها لبلاده قبل أسبوعين من الحرب، وربما كذلك على تشجيع من تل أبيب التي كشفت الحرب الأخيرة حجم تورطها العسكري والاقتصادي والأمني في الجمهورية القوقاسية التي يحمل وزير دفاعها دافيد كيزرا شفيلي الجنسية الإسرائيلية أيضا، والتي تشكل الأسلحة الإسرائيلية جزءاً مهما من ترسانتها العسكرية المحدودة، ناهيك عن التدريبات المتواصلة والشركات الأمنية المعززة. فالرئيس الجورجي الذي حاول استعادة تماسكه المعنوي وهيبته الرئاسية أمام الحشود المتجمعة أمام قصره في تبليسي بعد يوم واحد على صورته منبطحاً أمام قذائف المدفعية الروسية في مدينة دوري، لم ينجح، على ما يبدو، في استيعاب المتغيرات الهامة التي جرت في موسكو خلال السنوات الأخيرة، بل بقي يتصرف أن الدب الروسي ما زال أسير قفص نظام دولي أحادي تقوده واشنطن وتتصرف فيه موسكو، كغيرها من العواصم، كخادم مطيع لا خيار له سوى الخضوع لإملاء السيد الذي لا يقهر. بل يبدو أن هذا الرئيس المحدود التجربة والخبرة، لم يقرأ جيداً تاريخ علاقات الدول الكبرى مع أدواتها التي تظهر كل حماسة لهذه الأدوات حتى تتورط، وحين تتورط لا تجد ما تقدمه لها سوى الدعم الكلامي الذي تتسابق على تقديمه تصريحات متسارعة يدلي بها، تباعاً، الناطقون الرسميون باسم الرئاسة أو الخارجية أو حتى أحياناً الرئيس نفسه ووزير خارجيته. فما جرى منذ السادس من آب 2008 في جورجيا، واستطراداً في إقليمي اوسيتيا الجنوبية وابخازيا المطلة على البحر الأسود، سيكون بدون شك محطة تاريخية هامة في العلاقات الدولية عموماً، وفي منطقة القوقاز المطلة على بحر قزوين خصوصاً، ليس بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الروسي فحسب، بل بين روسيا والاتحاد الأوروبي ذاته الذي لا يخفي أقطابه الفعليون تمايزهم، في هذا الموضوع، عن الإدارة الأمريكية الحالية في سياستها القوقازية، وهي تعيش أسابيعها الأخيرة. وهذه الأحداث ستنعكس حتماً على مستقبل العلاقة بين واشنطن وحلف (الناتو) نفسه الذي تجنب أقطابه الأوروبيون في لقاء بوخارست، قبل أسابيع، الموافقة على ضم جورجيا إليه وتم تأجيل البت في هذا الانضمام عاماً كاملاً، تماماً كما تم تأجيل الموافقة على ضم جورجيا إلى الاتحاد الأوروبي نفسه مفضلين إبقاءها في مجلس أوروبا خصوصاً أن اقتصادها المتعثر ( أكثر من 20%، وربما 50% ، من قوتها العاملة في حال بطالة، ومعظم صادراتها الزراعية تذهب إلى روسيا)، لا يسمح لها بالانضمام إلى الاتحاد. ويذهب بعض المحللين بعيداً في تفسير نزق تساكشفيلي ومغامرته غير المحسوبة ضد اوسيتيا الجنوبية، إلى رغبته في وضع الغرب بأسره أمام أمر واقع يضطر معه إلى الموافقة، قبيل انتهاء ولاية بوش الرئاسية، على انضمامه إلى حلف الأطلسي (الناتو) والى الاتحاد الأوروبي معاً، ولعل هذا ما يفسّر بالمقابل المرونة الروسية مع خطة السلام الأوروبية التي حملها الرئيس الفرنسي إلى روسيا حيث يحاول ساركوزي من خلالها، كما خلال الاتحاد المتوسطي والانفراج مع دمشق وربما طهران، أن يثبت انه ليس رئيس الاتحاد الأوروبي فقط، بل هو رئيس الغرب كله ولو مؤقتاً، في ظل انهماك الولاياتالمتحدة في انتخاباتها الرئاسية التي يرى فيها كثيرون منعطفاً خطيراً في السياسة الأمريكية، التي كان يقودها المحافظون الجدد ، بعد أن أثبتت فشلاً وارتباكاً في غير منطقة من العالم لاسيما في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان وصولاً إلى أمريكا اللاتينية، ناهيك عن المراوحة إزاء إيران، والمراجعة تجاه سوريا، وربما السودان. ولقد حفل الإعلام العالمي بالإشارة إلى أسباب عديدة تكمن وراء الرد العنيف والسريع الذي أقدمت عليه موسكو بعد احتلال جورجيا لعاصمة إقليم اوسيتيا الجنوبية، فالبعض اعتبره انتفاضة روسية على عقدين من الإذلال والمهانة عاشتها الدولة التي ترفض أن تعامل نفسها، أو يعاملها الآخرون، كغير دولة كبرى، والبعض الآخر رأى فيه ثأراً من إصرار واشنطن ومعها الغرب على إعلان استقلال كوسوفو والاعتراف به، والبعض الثالث اعتبره دفاعاً استباقياً من روسيا على محاولة التطويق الاستراتيجي لها التي تقوم بها واشنطن وحلفائها عبر الدرع الصاروخي وإلحاق دول المنظومة الشيوعية سابقاً بحلف الأطلسي، فيما رأى فيه البعض الرابع تدشيناً روسياً لمرحلة جديدة في دورها وموقعها بعد انتهاء الحرب الباردة، بل إعلانا، لكل من يهمه الأمر بان هذه الحرب سوف تعود من جديد خصوصاً أن روسيا، قد أنشأت مع الصين والهند وإيران ودول أسيوية أخرى منظومة شانغهاي التي بدأت منظومة اقتصادية وأخذت تتحول إلى منظومة إستراتيجية شرقية وأوروآسيوية تمتد من المياه الدافئة في البحر الأسود وبحر قزوين وربما البحر المتوسط وبحيرة الخليج، إلى المحيط الهادئ، في وجه حلف الناتو الغربي الممتد على ضفتي الأطلسي. لكن القليل من المحللين انتبهوا إلى أن الحرب التي شنتها جورجيا، والتي، بالمناسبة، يمر بها احد أهم أنابيب النفط القادم من باكو إلى تبليسي فجيهان التركية، قد سبقها بأيام اتفاقان بالغا الخطورة على صعيد الطاقة بين شركة (غاز بروم) الروسية الحكومية العملاقة وبين تركمانستان (القوقازية أيضا) . الاتفاق الأول الذي تم توقيعه في عاصمة تركمانستان حدد آلية تسعير مشتريات الغاز من الجمهورية السوفياتية السابقة لصالح الاتحاد الروسي ولمدة عشرين سنة، فيما أعطى الاتفاق الثاني شركة غاز بروم وحدانية المساهمة في بناء مشاريع الطاقة في تلك الدولة القوقازية. واللافت هنا أن الرئيس الروسي الجديد كان رئيساً لمجلس إدارة (غاز بروم) على مدى 8 سنوات (2000-2008) وانه قد زار عاصمة تركمانستان في مطلع تموز/يوليو الفائت فيما كان متجهاً لقمة الدول الصناعية الثماني في هوكايدو اليابانية، كما أن اللافت أيضا أن (غاز بروم) لن تحقق على الأرجح أرباحا من إعادة بيع الغاز التركماستاني، كما انها تسعى لعقد اتفاقات مماثلة مع كازاخستان وأوزبكستان، وهما من الدول الأكثر إنتاجا للنفط في آسيا الوسطى. وفي الإطار ذاته فان نائب رئيس الوزراء الروسي ايغور سخين سافر إلى بكين قبل أكثر من أسبوعين من اجل التوصل مع نظيره الصيني وانغ اوشان إلى مبادرة نفطية أطلق عليها اسم آليات التفاوض حول الطاقة وهي مبادرة يجري التفاوض بشأنها في سرية بالغة حسب صحيفة (تشينا دايلي) الحكومية، والتي قد تقود إلى إدارة موسكو ظهرها للدول الغربية وتهتم بتصدير نفطها إلى البلدان الآسيوية الواقعة على المحيط الهادئ. وحسب الخبير الدبلوماسي الهندي السيد م. ك. بهادراكوما، فان ما جرى، ويجري، في القوقاز لم يكن له مثيل في الجغرافيا السياسية للنفط، بل إن الولاياتالمتحدة عانت من هزيمة كبرى في سباقها من اجل غاز قزوين . ويرى محللون آخرون أن انغماس روسيا في استراتيجية أمن الطاقة يشكل رداً روسياً هادئاً ومتدرجاً على الضربة الأمريكية القاسية التي تلقتها موسكو واستثماراتها النفطية في العراق بعد الاحتلال الأمريكي، وبالتالي فان روسيا التي أخرجتها إدارة بوش من الباب النفطي العراقي تعود اليوم وبقوة من نافذة القوقاز، بل إنها في حال تطور علاقتها مع إيران ستصبح ذات نفوذ مؤثر مطل على خزاني النفط والغاز الرئيسيين في العالم وهما خزان الخليج العربي وبحر قزوين. فالنفط هنا يفسر كذلك جانباً من اندفاعة جورجيا، بإيعاز أمريكي وإسرائيلي، لاحتلال اوسيتيا الجنوبية وإرباك الاندفاعة الروسية التي تحاول أن تطور من قدرتها النفطية، كما تحاول أيضا أن تقلّص من النفوذ الصهيوني المتنامي في دول المنظومة الشيوعية السابقة، وهو نفوذ شكل بنظر القوميين الروس رأس حربة للمخطط الأمريكي في تمزيق المعسكر السوفياتي السابق وتطويق قلبه الروسي من الداخل والخارج معاً. كلام كثير أيضا سيقال عما جرى في النصف الأول من آب/أغسطس 2008 في جورجيا، وبعض هذا الكلام ينتظر تطور الأحداث ذاتها، وهي ما زالت متسارعة، لكن الكلام الأبرز هو ذلك الذي سيتصاعد في واشنطن نفسها ليلقي باللائمة على إدارة بوش في الانتفاضة الروسية العنيفة، وهي انتفاضة ما كان لها أن تقوم لولا انغماس البيت الأبيض في غمار الحرب في العراق وأفغانستان، واهتزاز حليفه الصهيوني في تل أبيب في مواجهات لبنان وفلسطين وبالتالي لولا إهماله لسنوات، للصحوة الروسية المتصاعدة والقوة الصينية المتنامية وتطورات أمريكا اللاتينية. ومن الكلام الذي سيقال أيضا أن السياسة الأمريكية وهي تندفع لاحتلال دول مستقلة كالعراق وأفغانستان، وتدفع العالم للاعتراف باستقلال كوسوفو، وتدعم تل أبيب في حروبها العدوانية المتواصلة ضد فلسطين ولبنان، كانت تؤسس لمنطق في السياسة الدولية ستدفع هي بالذات ثمناً لانتشاره هو منطق الاحتلال والانفصال والعدوان ، لذلك لم يجد الرئيس الروسي ميدفيديف ما يستند إليه من حجة أكثر وضوحاً من مسألة دعم واشنطن لاستقلال كوسوفو، ولم يجد مندوب روسيا في مجلس الأمن أفضل من حرب أمريكا على العراق لتبرير حرب بلاده على جورجيا. ويبقى السؤال الأخير هل سيتحرك غداً اوكامبو المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية لتوجيه مذكرة باعتقال رئيس جورجيا الأمريكي الجنسية ساكاتشفيلي، ووزير دفاعه الإسرائيلي الجنسية كيزراتشافيللي، على خوض حرب الإبادة التي شناها ضد سكان اوسيتيا الجنوبية وعاصمتها تسخينفالي أم أن حصانتهما كأمريكي و إسرائيلي ، ستحول مرة جديدة دون ملاحقتها أمام القضاء الدولي الذي ما زال أسير الانتقائية والاستنسابية وسياسة الكيل بمكيالين أو أكثر. وإذا كان ساكاتشفيلي لم يستفد من دروس زملاء له سابقين راهنوا على مساندة واشنطن وتل أبيب وغيرها لهم، فهل يستفيد الساكاتشفيليون في منطقتنا والعالم من الدرس الجورجي الجديد.