في بعض الأحيان تقدم هدية على طبق من ذهب إلى ألد خصومك وأنت تعتقد أنك وجهت إليه ضربة موجعة، وهذا ما حصل لرئيس جورجيا ميخائيل شاكسفيلي مع روسيا عندما قرر اجتياح إقليم أوسيتيا الجنوبية الانفصالي في الليلة التي سبقت افتتاح الألعاب الاولمبية. لقد ظن شاكسفيلي أنه إذا احتل عاصمة الإقليم «سخينفالي» فإنه سيخلف واقعا على الأرض يصعب تغييره وأن خوف روسيا من ردة فعل الغرب سيمنعها من التدخل عسكريا، لكن الذي حدث بين أن حسابات الرئيس الجورجي كانت خاطئة. فقد انقض الروس على الفرصة التي يبدو أنهم كانوا ينتظرونها وحركوا دباباتهم في اتجاه الإقليم الذي انفصل عن جورجيا بعد حرب طاحنة في مطلع التسعينات. لم تمض ساعات حتى كانت الدبابات الروسية على مشارف عاصمة أوسيتيا الجنوبية. وقف العالم الغربي مشدوها لا يدري ماذا يحدث ولا ماذا يفعل. وبعد أن زال مفعول الصدمة تأكدت الدول الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة أن روسيا تمردت على وضع استمر عشرين عاما. لقد تجرع الروس منذ انهيار الاتحاد السوفياتي مرارة إذلال الغرب لهم في صمت وشاهدوا دويلات صغيرة كانت تدور في فلكهم تتجرأ عليهم. في عام ألفين بدا رئيس الوزراء الروسي الحالي فلاديمير بوتين عند وصوله إلى الحكم لأول مرة رجلا غامضا وزاد من غموضه أنه قدم من المخابرات. تسلم بوتين بلدا محطما من يد رجل بقي مخمورا طيلة فترة حكمه هو بوريس يلتسين... فقد بيعت مؤسسات الدولة للخواص وهربت الأموال إلى الخارج واستشرى الفساد إلى حد بدت معه روسيا بلدا ميؤوسا منه. استلم بوتين زمام الأمور وشرع في تطبيق مخطط سيعيد لروسيا هيبتها تدريجيا. استرجع السيطرة على مؤسسات الدولة الأكثر أهمية وهي مؤسسات الغاز والنفط وأقصى أعضاء الأوليغارشية الروسية الجديدة الذين رفضوا الانصياع لخططه واستفاد من انتعاش أسعار الطاقة ليبعث الروح في الاقتصاد الروسي من جديد. وبعد أن رتب بوتين البيت الروسي بعناية شديدة وأحكم قبضته عليه انتظر الفرصة ليعيد لروسيا هيبتها التي مرغت في التراب. لقد منح شاكسفيلي الفرصة لبوتين الذي أكدت الأحداث الأخيرة أنه مازال رجل روسيا القوي، رغم أن رجلا آخر هو ديمتري ميدفيدف يوجد في منصب الرئيس حاليا. فأثناء اندلاع الأزمة في أوسيتيا الجنوبية كان بوتين يخوض في حديث مطول مع الرئيس الأمريكي جورج بوش في بكين، أما الرئيس ميدفيدف فقد كان يتمتع برحلة بحرية على نهر الفولغا. لقد ذكر التدخل الروسي في أوسيتيا الجنوبية بالحملة العسكرية التي قادتها الولاياتالمتحدة في عام تسعة وتسعين من أجل استقلال إقليم كوسوفو عن صربيا حليفة روسيا. في تلك الأثناء وقفت روسيا موقف العاجز أمام ما اعتبرته عجرفة غربية لا مبرر لها وهي ترى الطائرات الأمريكية تدك بلغراد. أما اليوم فيمكن للروس أن يقولوا للغرب هذه بتلك. بعثت روسيا رسائل كثيرة وهي تتدخل في أوسيتيا الجنوبية ثم جورجيا. لقد وجهت رسائل إلى جيرانها الأقربين تخبرهم بأن عهد التجرؤ عليها قد ولى وأن عليهم أن يعيدوا النظر في مشاريعهم الأمنية وغير الأمنية مع الغرب. ووجهت رسائل إلى القوى الغربية تخبرها بأنها لن تقبل بعد اليوم الإهانة وأنها لن تقبل دروسا من أحد وأن المخططات التي يعدها الغربيون في دول تعتبرها حديقتها الخلفية غير مقبولة. لقد أرادت روسيا أن تقول للولايات المتحدةوبولونيا أعيدا النظر في مشروع الدرع الصاروخي وللحلف الأطلسي أعد النظر في مشروع ضم أوكرانيا وجورجيا. فماذا كان رد فعل الغرب؟ لا يمكن هنا الحديث عن موقف غربي موحد فقد تبنت الدول الأوربية في البداية موقفا معتدلا وسارعت إلى التدخل لدى الطرفين للتوصل إلى اتفاق لإطلاق النار عن طريق فرنسا التي ترأس حاليا الاتحاد الأوربي . وتمكن الرئيس الفرنسي الذي كان ينتظر هو أيضا الفرصة ليثبت جدارته بعد إخفاقات داخلية كثيرة من إقناع الطرفين بوقف القتال. وعاتبت بعض الدول الأوربية الرئيس الجورجي وحملته مسؤولية إطلاق الشرارة الأولى لهذه الحرب. ثم غيرت بعض الدول الأوربية مواقفها بعد أن مورست عليها على ما يبدو ضغوطا أمريكية ورأينا المستشارة الألمانية التي تبنت بلادها موقفا محايدا في البداية تعد رئيس جورجيا خلال زيارتها لبلاده بالانضمام إلى الحلف الأطلسي. أما الموقف الأمريكي فقد انحاز بشكل كامل إلى جانب جورجيا وانهالت التهديدات الأمريكية على روسيا. وحملت تصريحات الرئيس الأمريكي ووزيرته في الخارجية ووزيره في الدفاع تهديدات بالطرد من العالم الحر الذي تزعم الولاياتالمتحدة أنها قائدته، وتهديدات أخرى بالطرد من مجموعة الدول الثمانية الأكثر تصنيعا. وسارعت الإدارة الأمريكية إلى التوقيع على اتفاق لإقامة درع صاروخي في بولونيا. والحقيقة أن المفاوضات بشأن هذا الدرع تواصلت أشهرا طويلة وظلت بولونيا مترددة بشأن التوقيع. والمثير هنا أن واشنطن تقول إن هدف هذا الدرع هو التصدي لهجمات محتملة من دول مارقة مثل إيران وكوريا الشمالية لكن الروس يعرفون أنه يستهدفهم دون غيرهم ويعتبرون الإصرار على إقامته دليلا على أن الأمريكان مازالوا يفكرون بعقلية الحرب الباردة. بعد التوقيع على الاتفاق أعلن الروس أن بولونيا ضمنت مائة في المائة أنها ستتلقى هجوما روسيا وهذا تهديد مشفر لأنه من المستبعد أن تهاجم روسيابولونيا في ظل الظروف الدولية الحالية. ولاشك أن المسؤولين البولونيين حاولوا فك شفرته لمعرفة ماذا يقصد الروس بهذا الكلام. ويرى مراقبون في الولاياتالمتحدة أن رد فعل الإدارة الأمريكية مبالغ فيه لأن ما حدث في أوسيتيا لا يشكل خطرا كبيرا على المصالح الأمريكية ويرجعون ذلك إلى سعي الحزب الجمهوري لاستثمار هذه الأزمة في الانتخابات الرئاسية القادمة، لأنه إذا تم إقناع الأمريكيين بأن المارد الروسي خرج من قمقمه من جديد فإنهم لن يصوتوا لباراك أوباما الذي روجت الآلة الدعائية الجمهورية أنه لا يملك خبرة في القضايا الدولية ولا يصلح لقيادة الأركان. إن ما حدث ليس بداية حرب باردة جديدة لأن الأوضاع على الساحة الدولية تغيرت ولم تعد تسمح بحرب كهذه، لكن العلاقات الروسية الأمريكية دخلت مرحلة جديدة قد يعاد فيها ترتيب التوازنات وفق وضع روسيا اليوم الذي يختلف كثيرا عن وضعها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قبل عقدين من الزمن.