يرى محللون أن العمليات العسكرية الروسية في جورجيا وضعت على المحك مسألة توسيع حلف شمال الأطلسي إلى الشرق خلال السنوات العشر الماضية. ومن شأنها أن تفتح مجددا النقاش حول المشروع الأمريكي حول نشر درع صاروخية في شرق أوروبا. وتابعت القوات الأمريكية والتابعة للحلف من مواقع مجاورة اجتياح الجيش الروسي لمنطقتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الانفصاليتين الجورجيتين غداة هجوم عسكري شنته جورجيا على أوسيتيا. أوضحت الولاياتالمتحدة طوال سنوات بعد انهيار الإمبراطورية السوفياتية ونهاية الحرب الباردة، لكل من الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن وخلفه فلاديمير بوتين، أن واشنطن غير مهتمة بتوسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليشمل الجمهوريات السوفياتية السابقة. لكن تم تجاهل هذا التأكيد عندما تم التصويت لانضمام دول البلطيق الثلاث (أستونيا، لاتفيا ومولدفيا) إلى نادي الأطلسي. ودفعت الولاياتالمتحدة بقوة لضم جورجيا إلى قائمة دول الناتو، ولكن أعضاء الحلف الأوروبيين دفعوا في الاتجاه المعاكس. ومؤخراً، في أبريل الماضي في قمة حلف شمال الأطلسي في بوخارست، انقسم الحلف المؤلف من 26 دولة بعدما قدمت روسيا احتجاجاً شديد اللهجة، معتبرة أن الوعد بتوسيع عضوية الناتو لتشمل الجمهوريات المستقلة التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي هو بمثابة «خطأ استراتيجي ضخم». يشار إلى أنه إثر الهجوم الروسي على جورجيا في الأسبوع الماضي، قال الرئيس الجورجي المؤيد لأمريكا ميخائيل ساكشفيلي إن موسكو ما كانت لتتجرأ بالاندفاع بقوة في أوسيتيا الجنوبية وقصف أهداف جورجية لو كان هذا البلد عضواً في الناتو. والواقع أن هذا الأمر ليس مؤكداً، فالناتو ما كان ليرد بأي حال. فالولاياتالمتحدة أعادت القوات الجورجية وعديدها 200 جندي من العراق، كما أن البيت الأبيض ملتزم بحربين تستنزفان قدراته في كل من العراق وأفغانستان، فيما لا يحق لغالبية قوات الناتو الموجودة في أفغانستان، ما عدا الكنديين والبريطانيين والهولنديين والأمريكيين، القتال إلا بأمر من برلماناتهم الوطنية. وفي ظل وجود 19500 جندي متدرب فقط و7 طائرات حربية بطل استعمالها و100 دبابة قديمة، لم يكن أمام جورجيا الكثير لتعتمد عليه لوقف التيار الروسي. واستفاد المخططون الإستراتيجيون في موسكو من مأزق الناتو في مواجهة نكسة كبرى للمصالح الأمريكية على الحدود الجورجية. وساهم الاندفاع القوي لحوالي 100 دبابة بإخراج القوات الجورجية من إقليم أوسيتيا الجنوبية المثير للجدل حيث يحمل أكثر من 70 ألف شخص جواز سفر روسياً. وقصف الروس ميناء بوتي (وهو موقع أساسي لتأمين موارد الطاقة والنفط)، ومطار تبليسي الدولي وأنبوب النفط باكو تبليسي سيهان (الذي ينقل النفط من بحر قزوين إلى تركيا)، ومدينة غوري (مكان ولادة جوزيف ستالين) كما فتحت جبهة جديدة من خلال الانتقال إلى إقليم آخر مثير للجدل هو أبخازيا، الذي لطالما شهد اشتباكات عرقية. وقال ساكشفيلي أيضاً إن الجيش الروسي فتح جبهة أخرى من خلال نقل وحدات من أسطوله على البحر الأسود إلى أبخازيا. وأضاف الرئيس الجورجي أن التطهير العرقي للجورجيين في أوسيتيا وأبخازيا على الطريق. وتبين أنه من الصعب التأكد من صحة المزاعم والمزاعم المضادة، فقد زعمت موسكو أنها «حررت عاصمة أوسيتيا الجنوبية تسخينفالي بالكامل»، فيما ردت جورجيا بالإعلان عن إسقاط 12 مروحية روسية (تأكد من سقوط اثنين منها). وكان رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين لا يزال في افتتاح الألعاب الأولمبية في العاصمة الصينية، عندما دخلت الدبابات الروسية إلى جورجيا. وكان الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف مسؤولاً عن موسكو وتعهد «بإجبار الطرف الجورجي على اختيار السلام». ولم تعد الولاياتالمتحدة تحتمل نفور فريق ميدفيديف بوتين أكثر، فهي بحاجة إلى مساعدة روسيا في السيطرة على الطموحات النووية الإيرانية، لكن هذا الأمر قد لا يتحقق بعد الآن. ففي مطلق الأحوال، بات عدد من الدول الخليجية يشككون في أن الوقت قد حان ليقرر الرئيس بوش إعطاء الأوامر بتوجيه ضربة جوية ضد المنشآت النووية الإيرانية. وأفادت صحيفة «كويت تايمز» أن مجموعتي حاملات صواريخ أمريكية إضافيتين انطلقتا في اتجاه المنطقة، وأن الكويت بدأت في وضع اللمسات الأخيرة على «خطة حرب طارئة». لذا، يقول الساخرون إن هجوم روسيا المفاجئ ضد جورجيا والحرب الخاطفة الأمريكية و/أو الإسرائيلية ضد إيران قد تلغي بروباغندا التفوق التي يطلق كل منهما. وبالنسبة إلى الجورجي العادي، فقد تركهم الغرب يترنحون لوحدهم من دون الأخذ في الاعتبار بأن جورجيا في فترة اختبار للانضمام إلى الناتو وهي في مرحلة تطبيق «خطة عمل العضوية»، والأكثر رجاحة هو أن تعيد موسكو ضم أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية إليها، ولكل منهما لغتها الخاصة. والحقيقة هي أن مصداقية الناتو على المحك في أفغانستان، حيث تستهلك حركة طالبان الموجودات بشكل تدريجي. تقارير غربية أكدت أن الولاياتالمتحدة حاولت جاهدة إقناع الناتو بضم جورجيا إليه في قمة الحلف الأخيرة في بوخارست، بيد أن المعارضة الألمانية الفرنسية حالت دون ذلك. وأكد مراقبون غربيون أن واشنطن كانت تسعى إلى وضع جورجيا تحت المظلة الأطلسية لعدة أسباب، منها تحذير روسيا من تهديد تبليسي والتدخل في مسألتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، فضلا عن أن جورجيا الأطلسية ستشكل مساحة أمنية في غاية الأهمية للدرع الصاروخي الأمريكي في بولندا وجمهورية التشيك. أما التحرك الروسي ضد جورجيا فيمكن تفسيره من خلال مجموعة من الأهداف الرئيسية التي تسعى موسكو إلى تحقيقها، فالهدف الأولى وعلى المدى القصير ستحاول روسيا الاتحادية ومن خلال استخدام آلتها العسكرية المدعومة من قبل العناصر الأوسيتية الجنوبية المؤيدة للانفصال أن تفرض هيمنتها وإبقاء قواتها على الأرض من خلال عملية حفظ السلام التي تقوم بها. فالقوقاز تعتبر منطقة استراتيجية توجد فيها مصالح روسية أساسية مما يدفع الروس إلى حمايتها مجبرين كافة القوى العالمية على الاعتراف لهم وحدهم بهذا الدور. أما الهدف الثاني فيتمثل في فرض السيطرة الروسية على عدد من القرى الخاضعة للسيطرة الجورجية داخل أراضي أوسيتيا الجنوبية، وذلك من خلال مساندة العناصر الأوسيتية الانفصالية المسلحة والمتطوعة المناوئة لجورجيا وبالتالي تكون لها السيطرة الفعلية على الأرض مما يسهل من قدرات المفاوض الروسي عند التعامل مع جورجيا في مرحلة لاحقة. في حين يتسم الهدف الثالث من الأهداف الروسية بأنه هدف سياسي استراتيجي ويتمثل في منع حلف شمال الأطلنطي «الناتو» من الاستمرار في خطته الرامية إلى ضم جورجيا إلى الحلف. ولم يكن من الغريب أن يتلقى الروس بانزعاج تلك التصريحات التي أدلى بها ياب دي هوب شيفر، سكرتير عام الناتو في يونيو الماضي، حينما أشار إلى أن الحلف سيعقد اجتماعا له في العاصمة الجورجية تبليسي في شهر شتنبر2008. ويؤكد المحللون أن أكبر مخاوف موسكو في الماضي والحاضر والمستقبل يتمحور حول تواجد أساطيل حلف الناتو بوجه عام والولاياتالمتحدة، زعيمة الحلف، على وجه الخصوص في البحر الأسود. كما يعد وضع صواريخ استراتيجية أو إقامة محطات للرصد تابعة للناتو في جورجيا من أشد تلك المخاوف إثارة. أما رابع تلك الأهداف فيتمثل في رغبة روسيا الاتحادية في استغلال فرض سيطرتها المباشرة أو غير المباشرة من خلال القوى الانفصالية المناوئة لجورجيا على أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في المقايضة على الموقف الغربي من قضية استقلال إقليم كوسوفا أحادي الجانب في بداية عام -2008-، خاصة أن موسكو لم تعترف بهذا الاستقلال حتى اليوم انطلاقا من اهتمامها بحماية مصلحة حلفائها في صربيا. في حين يتمثل الهدف الأخير في المحافظة على المصالح الروسية المرتبطة بموارد الطاقة في المنطقة وممرات نقلها والتي تزايدت أهميتها النسبية في اتخاذ قرارات السياسة الداخلية والخارجية بشكل كبير في الأعوام الأخيرة. فروسيا الاتحادية أصبحت مستخدما دائما لأداة الطاقة في تحقيق أهداف سياستها الخارجية تجاه أوروبا، وانطلاقا من كون جورجيا -التي يحكمها ساكاشفيلي المناوئ لروسيا- واقعة في منطقة حاكمة تعرف بممر الطاقة الجنوبي لروسيا والذي يربط بين منطقة بحر قزوين الغنية بالغاز والبترول بالأسواق العالمية دون المرور بالأراضي الروسية، حيث يمر بالمنطقة خط أنابيب نقل البترول المعروف بخط باكو - تبليسي – جيهان، فإن الروس يبدون حرصا شديدا على التواجد الفعال بالمنطقة وإيجاد الظروف السياسية والأمنية التي تتلاءم مع خدمة أهدافهم وسياساتهم الخارجية بغض النظر عن وسائل تحقيق ذلك الهدف. ويطرح بعض الخبراء سيناريوهات مستقبلية للحرب بين روسيا وجورجيا: الأول: ويتركز في مواصلة روسيا حربها ضد القوات الجورجية حتى تعلن جورجيا أن مطالبها المتعلقة بما تعتبره «أقاليمها»، سواء في أوسيتيا أو ابخازيا أو أجاريا الملاصقة للبحر الأسود والحدود التركية، هي مطالب يخضع دعمها من قبل الغرب للمقايضة مع موسكو في ملفات أخرى، حيث يحتاج العالم إلى الدعم الروسي، وأبرز هذه الملفات التعاون في مواجهة كوريا الشمالية، والملف الإيراني. إضافة إلى ذلك حاجة الدول الأوروبية إلى الطاقة الروسية، بعد أن بات استمرار تدفق الغاز الروسي إلى هذه الدول على درجة من الأهمية لا يوازيها سوى استمرار تدفق النفط إلى مصافي الغرب عبر مضيق هرمز. السيناريو الثاني: يدور حول احتمالات التوسع في الحرب، الأمر الذي يدفع المجتمع الدولي إلى الدخول في مواجهة شاملة مع موسكو، بسبب الصراع مع جورجيا على هذا الإقليم، الأمر الذي ينتج عنه اشتعال منطقة القوقاز بأكملها. السيناريو الثالث: هو الاستجابة الجزئية للجهود الدولية، مع استمرار حالة الحرب ضد جورجيا بهدف تثبيت المصالح الروسية في عدم اندماج أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا مع جورجيا، وإعطاء روسيا اليد الطولى في تحديد مستقبل المنطقة. في ظل الرغبة الغربية بالحفاظ على علاقاتها الإستراتيجية مع موسكو.