حين اختار رئيس جورجيا ميخائيل ساكاشفيلي استخدام القوات المسلحة ضد إقليمين منفصلين عن جورجيا، اختار أن يفعل ذلك بموازاة انطلاق أولمبياد بكين وانشداد العالم إليها بل وتواجد معظم قادة العالم في العاصمة الصينية. رئيس جورجيا يحمل الجنسية الأميركية إضافة إلى جنسيته الجورجية، وهو عمل من البداية وزيرا تحت رئاسة إدوارد شيفارنادزه إلى أن انقلب على الأخير في ما عرف بـ «الثورة الوردية» في سنة 2003 لكي يخلفه في رئاسة جورجيا معلنا للناخبين تعهدين قاطعين: أن يستعيد لجورجيا إقليميها المنفصلين - أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا - وأن يضم جورجيا إلى عضوية حلف شمال الأطلسي بدعم أميركي. رئيس جورجيا هذا اعتبره بعضهم من البداية متهورا وتسيطر على خياراته عقلية المقامرة، وآخر من وصفه بذلك غيرهارد شرودر المستشار الألماني السابق. لكن أيا كانت توقعاته من مقامرته العسكرية الأخيرة تلك ضد إقليمين توجد فيهما قوات حفظ سلام روسية، فلا بد في الحد الأدنى أنه كان متأكدا من أمرين، أولا: أن روسيا سترد عسكريا. وثانيا: أن الرد الروسي سيفرض على الأرض أمرا واقعا جديدا. مع أن جورجيا هي إحدى فتافيت الاتحاد السوفياتي السابق، بسكان أقل من خمسة ملايين نسمة، إلا أن حربا أهلية كانت قد جرت فيها وأسفرت عن تمرد اثنين من أقاليمها هما أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ما أسفر عمليا عن انفصالهما واستقلالهما الفعلي منذ العام 1992. وعلى رغم أن اغلبية سكانهما أصبحت تحمل جوازات روسية فإن روسيا لم تعترف باستقلالهما مكتفية بوجود قوات منها لحفظ السلام على الأرض. وحينما يتوازى مع هذا الوجود الروسي وجود أميركي أيضا في الجانب الجورجي في شكل خبراء ومستشارين ثم وجود إسرائيلي في شكل أجهزة استخبارات ومدربين للقوات النظامية وصفقات إسرائيلية من الأسلحة وطائرات التجسس، تصبح كل مكونات الحريق قائمة، فقط في انتظار عود ثقاب. حسب تقرير صحافي في صحيفة «نيويورك تايمز» الاميركية، وبلسان مسؤول أميركي رفيع، فإن «موسكو كانت تلعب دورا بناء حتى الليلة السابقة لتصعيدها العسكري ضد جورجيا». وحسب ما نشره ديمتري روغوزين سفير روسيا لدى حلف شمال الأطلسي فإنه بمجرد أن بدأت طائرات ومدفعية ودبابات جورجيا هجومها المفاجئ في أوسيتيا الجنوبية: «حاول الكرملين الاتصال هاتفياً برئيس جورجيا ساكاشفيلي الذي كان لا يرد. وطوال ذلك الوقت قامت هيئة الأركان المشتركة الروسية بمنع قوة حفظ السلام الروسية من الرد على النيران. في النهاية فقدنا كل صبرنا، وبدأت القوات الروسية مساعدة السكان المدنيين في عاصمة أوسيتيا الجنوبية» الذين فاجأهم الهجوم الكاسح الجورجي، ومعظمهم يحملون جواز السفر الروسي. هناك روايات عدة حول دوافع تلك الحرب، ثم الرد الروسي المسلح عليها. رواية روسية تقول إن ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي هو الذي حرض ساكاشفيلي على شن تلك الحرب أملاً منه بدعم حملة جون ماكين الانتخابية. هناك رواية نصف أوروبية ترى أن تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس خلال زيارتها السابقة لجورجيا قبل تلك الحرب بعشرة أيام فقط حملت رسالتين واضحتين الى رئيس جورجيا ووزير دفاعه الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية أصلا. أولهما إن واشنطن ستبذل ما بوسعها من أجل تسريع قبول جورجيا في عضوية حلف شمال الأطلسي. وثانيهما إن واشنطن لا تشك لحظة واحدة في أنها ستقف دوما إلى جوار أصدقائها من دون تردد. خبراء آخرون طرحوا تفسيرا ثالثا ربما يكون مكملاً. التفسير هو أن أميركا طوال الثمانية عشر شهراً الأخيرة ظلت تسعى بإلحاح من اجل نشر نظامها الصاروخي الجديد في كل من تشيكيا وبولندا في مواجهة معارضة روسية قاطعة وحاسمة، وأيضا معارضة أعضاء بارزين في حلف الأطلسي مثل ألمانيا. معارضة الحلفاء جعلت أميركا تتكفل بالمشروع بمفردها بعيدا عن حلف الأطلسي. لكنها وجدت أيضا معارضة ملموسة بين الرأي العام في كل من بولندا وتشيكيا. فإذا قامت جورجيا باستفزاز روسيا عسكريا بما فيه الكفاية، وتصرفت روسيا برد فعل عسكري زائد، فإن هذا يتيح للدعاية الأميركية استعادة أجواء الحرب الباردة وانتقاد روسيا المتسلطة ضد جار صغير. هنا تستطيع هذه الإدارة الأميركية الغاربة أن تقول إنها أنجزت الخطوة قبل الأخيرة في خطة استكمال محاصرة روسيا بالكامل. أما الخطوة الأخيرة التالية فستكون انضمام جورجيا وأوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. في حالة جورجيا تصبح قوات الأطلسي بقيادة أميركية موجودة على مسافة 1200 كيلومتر من الكرملين. وفي حالة أوكرانيا تصبح موجودة على مسافة 750 كيلومتراً من الكرملين. في ما سبق كانت الإدارة الأميركية تكرر القول إن نظامها الصاروخي الجديد ليس موجها ضد روسيا بالمرة وإنما تحسبا لصواريخ معادية من دول مارقة مثل إيران. ما تعرفه روسيا عن ذلك النظام هو الأدق والأصح. فالحقائق المجردة توضح أن إيران تقع على مسافة أربعة آلاف كيلو متر من بولندا بينما الصواريخ الأميركية التي سيتم نشرها في بولندا مداها ألفا كيلومتر. هذا يعني أن الهدف الأميركي المحدد هنا هو قواعد الصواريخ الاستراتيجية النووية في قلب روسيا بما يقلص تماما من قدرة روسيا على الردع النووي وهو الردع الذي كان بحد ذاته سبب التعايش السلمي مع أميركا منذ الحرب العالمية الثانية. هذا يعني أيضا أنه سيصبح على روسيا تغيير عقيدتها الدفاعية من جديد، وهو ما أشار إليه العسكريون الروس حين أعلنوا أن انضمام بولندا إلى المشروع الصاروخي الأميركي الجديد يضعها ضمن أهداف الرد الصاروخي النووي الروسي في حال نشوب مواجهة. وإذا كان سقوط حائط برلين في 1989 وإعادة توحيد ألمانيا قد قضيا على تقسيم أوروبا الذي أسفرت عنه الحرب العالمية الثانية فإن تقدم أميركا إلى حدود روسيا - سواء منفردة من خلال النظام الصاروخي الجديد أو بشكل جماعي من خلال تقدم حلف شمال الأطلسي شرقا - يعني إعادة تقسيم أوروبا مرة أخرى. إنما في هذه المرة تكون روسيا وحيدة ومنكفئة على ذاتها ومحاصرة مقابل أوروبا التي تستقوي عليها بقيادة أميركية. إن وارسو التي كانت في السابق مقرا للحلف العسكري بقيادة موسكو السوفياتية تصبح من الآن فصاعدا مقرا لشبكة صاروخية أميركية تستهدف إصابة روسيا بشلل استراتيجي. وبعد أن كانت جورجيا وأوكرانيا سابقا جزءا عضويا من روسيا السوفياتية تدفعهما أميركا الآن إلى عضوية حلف الأطلسي بقيادتها. من اللافت هنا أن أعضاء بارزين داخل حلف الأطلسي يعارضون انضمام جورجيا وأوكرانيا تحديدا إلى ذلك الحلف ولو من وراء الكاميرات. هؤلاء وجدوا في ما فعلته جورجيا في هذا الشهر من حرب مفاجئة حجة إضافية. فلو كانت جورجيا عضوا في حلف الأطلسي فإن تلك الحرب الصغيرة كانت ستؤدي تلقائيا إلى جر 26 دولة أخرى في حلف الأطلسي إلى حرب ضد روسيا. حرب لا تريدها سوى جورجيا. أيضا يقول المعارضون إن الانقسامات الداخلية في أوكرانيا وجورجيا تضاعف من عبء انضمام الدولتين على باقي أعضاء حلف الأطلسي بلا مبرر، لأنهما ستنقلان إلى الحلف حروبا ونزاعات جاهزة. بالطبع يرد الآخرون بمنطق مضاد، فيقولون إنه لو كانت جورجيا عضوا في حلف شمال الأطلسي لما تجرأت روسيا على الرد عليها عسكريا. وبعيدا عن الحالات الافتراضية ومدى دقتها فإن ما هو مؤكد أن تحولا نوعيا في علاقات القوة الدولية جرى هذا الشهر. وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس كررت أخيراً قولها «إن نشر النظام الصاروخي الأميركي الجديد في بولندا ليس موجها بالمرة ضد روسيا». ولو عدنا إلى تصريحات مادلين أولبرايت عندما كانت وزيرة للخارجية في الإدارة الثانية لبيل كلينتون لوجدنا انها كانت تكرر الحجة نفسها حرفيا في كل مرة كانت تبرر بها توسع حلف شمال الأطلسي شرقا. ولأن روسيا كانت تساير تلك الحجج، ولو على مضض، فإنها أصبحت تعاني الآن مما أصبحت عليه. لم تستطع في شباط (فبراير) الماضي أن تمنع استقلال كوسوفو عن صربيا. والآن لن تقبل منها أميركا استقلال إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن جورجيا. وهكذا تتدحرج الشرعية الدولية إلى مستوى أكثر انخفاضا. وتقاطعات القوة تستشري في الغابة. ومن الآن حتى انتخابات الرئاسة الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل تتراجع أزمات بحجم العراق لتغطي عليها أزمات بمستوى جورجيا.