من أكثر الأوصاف المتداولة للحديث عن الإسلام وصفه باليسر.وهذا معلم جلي يشهد له القرآن والسنة النبوية من خلال نصوص صريحة كثيرة ، ويشهد له أيضا استقراء الأحكام الشرعية. وهو ما جعل ابن القيم يقول بلسان الواثقين في هذا النص الثمين من كتابه إعلام الموقعين:إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم، ومصالح العباد، في المعاش، والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحِكْمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل. وهذا اليسر من جهة أخرى هو من مقتضيات وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين. فلا يكون اليسر إلا حيث تكون الرحمة. ولقد بعث الله نبينا ليحرر الناس من الآصار والأغلال التي كانت عليهم بفعل ما كسبوا فقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (الأعراف : 157 ) لكن اليسر في زماننا يصير عند بعضهم مبررا لكل شيء، وبالمقابل قد لا تجد له أثرا في خطابات آخرين ولا في سلوكهم العام . وهي هي القضية التي نحاول التنبيه عليها: الإفراط والتفريط . فنحن بين من يبرر بدعوى اليسر كل تقصير وتضييع وإهمال...وبين من لا ترى في ما يأتي من الأفعال ولا في ما يدعو الناس إليه ما يدل على التزام اليسر!! فأما الذين هجروا اليسر فيكفيهم مراجعة النصوص الآمرة به الدالة عليه ففيها الحجة والدليل لمن يبحث عنه وحسبنا منها ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين ، إلا اختار أيسرهما ، ما لم يكن إثما وعن ابن أبي بردة قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم جده أبا موسي ومعاذاً إلى اليمن فقال يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا (متفق عليه). والأمر لهما ولمن يأتي بعدهما إلى يوم القيامة. وأما الذين حملوا اليسر على غير معناه فندعوهم إلى تدبر سياقات الحديث عن اليسر ورفع الحرج في القرآن والسنة ،وعسى أن يجدوا فيها جوابا مقنعا. فمن الملفت للنظر أن الآيات التي أشارت لهذه الخاصية الكبيرة من خصائص التشريع الإسلامي تأتي أيضا في سياق نفي حرج متوهم وأيضا تأتي ضمن التذكير بجملة من التكاليف الشرعية بما يدفع وهم اليسر الذي لا يعني عند البعض إلا التفلت من التكاليف إلى درجة قربية من التعطيل الكلي ، بحيث يصير الحديث عن اليسر تبريرا للتقصير وليس تمجيدا للتيسير. وهكذا لو تدبرنا قوله تعالى : مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (المائدة : 6 ) نجد الآية تعالج هذا التخوف تعقيبا على آية الأمر بالوضوء والاغتسال، فقد يسبق إلى ذهن البعض أن الأمر بالوضوء والغسل فيه حرج ، فجاءت الآية تنفي ذلك وترشد إلى أن يحمل التكليف على المعنى السليم وهو التطهير وإتمام النعمة. ومثله لو تأملنا قوله تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (الحج : 78 ) فالآية مليئة بالتكاليف ولكن وسط هذه التكليف يأتي التذكير بأن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج، فالأمر بالجهاد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله كل ذلك لا ينبغي أن ينظر إليه أنه يتعارض مع نفي الحرج. وعلى كل الوجوه لا يبقى مبرر للذين يريدون أن يجعلوا من يسر الدين مسوغا لكل أشكال التفلت والتفريط ،فلا معنى لليسر حين يأتي بالنقض على الأحكام الشرعية ،وأيضا على الذين هجروا اليسر أو كادوا أن يعلموا أن الدين يسر ولن يشاذ هذا الدين أحد إلا غلبه. إن نفي الحرج عن الدين هو من جهة تصحيح لما يمكن أن يسبق إلى ذهن المقبل على الدين في أحكامه القطعية، وهو توجيه للفقيه والمجتهد بان يراعي هذه السمة في ما يستنبط من الأحكام، وهو توجيه أيضا للممارس ألا يكلف نفسه ما لا يطيق من الأعمال، وهو توجيه للداعية أن يلزم التيسير في ما يدعو الناس إليه.