ليلة الأربعاء التاسع من أبريل 2008، لم تكن ليلة عادية بالنسبة لتسع عائلات تقطن في منزل واحد بحي باب هيلانة بالمدينة القديمة بمراكش، حيث لا خصوصية ولا أسرار عائلية ولا عيشة طبيعية، إنها الليلة التي سقط فيها دون سابق إنذار جزء مهم من المنزل رقم 143 بدرب بوطويل، الذي يأوي 61 نفسا بشرية بين جنين ورضيع وشاب وكهل وعجوز، إنها الليلة الفاصلة بين الأمان النسبي والضياع الكلي، بين وجود شبه مأوى وبين التشرد، بين دفء السرير وبرودة الشارع، بين بصيص من الأمل والشعور باليأس الكامل، بين زيف خطابات برامج التنمية الاجتماعية وانكشاف واقع مرير لا يرتفع. مرت دقائق قليلة على منتصف الليل، بينما كان 19 طفلا، نائمين في غرف متفرقة من الغرف الـ 12 للمنزل القديم، أو متظاهرين بذلك، وبينما كان البعض يستعد للنوم، وآخرون يتناولون ما قسم لهم من طعام تلك الليلة، إذ بسقوف غرف تتهاوى بسرعة، لم يسبقها غير قليل من التراب، كانت كافية ليهرب الكثيرون من موت محقق، اختلط صراخ الأطفال بعويل النساء، وتناثر الغبار بكثافة في المنزل، حتى اعتقد من رآه من الجيران أنه حريق. لم تفلح النداءات المتكررة لسكان المنزل لرجال الوقاية المدينة، فلم يجدوا وجيرانهم بدا من التعويل على أنفسهم، واستقدام سلالم لإنزال الكبار وتهريب الأطفال عبر السطوح إلى منازل وعراصي مجاورة، في الوقت الذي كادت امرأة مسنة تسقط من علو أربعة أمتار أنقذها صهرها، بينما تجمع البعض حول سيدتين حاملتين لتهدئتهما من روعهما، مخافة أي يحصل مكروه لجنينيهما، ومن حسن حظ أحدهم والذي خرج للتو من المستشفى جراء تعرضه لحادثة سير، لولا أن غرفته لم تتأذ، ولو شملها ما شمل الغرف الأخرى لكان تحت التراب، لأنه لا يستطيع النهوض والجري. تعويض مرت أكثر من خمسة أيام عن الحادث، وما يزال الكل في الشارع مشردا، لا أطفال ذهبوا إلى مدارسهم، ولا نساء ولا رجال استطاعوا العودة إلى حياتهم المهنية العادية، ولا خبر عن اهتمام المسؤولين بمحنة هؤلاء غير قدوم رجال البلدية من أجل إتمام هدم المنزل كله فتعرض لهم السكان، وغير خبر اجتماع لجنة بولاية مراكش تدرس كيفية إمدادهم ببعض المال دون مأوى يأويهم. أحوال الطقس المتقلبة من أمطار ورياح عاتية لم تعرفها المدينة منذ زمن طويل عمقت من مأساة المتضررين، وبدلا من تلحفهم الأرض وتغطيهم بالسماء استقدموا صناديق خشبية تقيهم قليلا من رطوبة الأرض وقطع بلاستيكية تحميهم من قطرات السماء. لم ينس الجميع تعليق الرايات الوطنية تعبيرا عن قضية حان الوقت للدفاع عنها بكل الوسائل. بقدر ما تعاطف الجيران مع هؤلاء وقدموا لهم كل مساعدة ممكنة حتى أحد الأجانب المقيمين في الدرب تحرك واتصل بالمسؤولين وبالقناة الثانية، بقدر ما كشفت هذه الحادثة أسرار عائلات تعيش البؤس بعينه، ليبقى السؤال ماذا يجعل أكثر من 61 فردا يعيشون تحت سقف منزل واحد لا يتعدى 60 مترا مربعا بطابقين؟ وماذا يجعل أكثر تسعة أشخاص يقطنون في غرفة واحدة من ستة أمتار، تجمع الزوج والزوجة والأبناء والأصهار من كل عمر وسن، غرفة بها مكان النوم والغسيل والمطبخ ومدارسة الأطفال ولعبهم؟ .. أسرار لا شيء غير قلة ذات اليد يدفع هؤلاء المتضررون إلى تقبل ذلك، يقول الشاب عبد الغني، الذي لم يكمل بعد عقده الثالث، لكن ملامحه تظهر أنه فات عقده الرابع، ليضيف لا أستطيع أن أنام مع نسيبتي (الحماة) وزوجها في غرفة واحدة، لقد تقطع بهما حبل الزمن ولم يعد لهما من معيل غيري، لا أستطيع التخلي عنهما، أو نسيان فضلهما، وهما من زوجاني ابنتهما، هذا ما لا أقدر عليه، أقضي ليلتي في الخارج أسترزق من خلال عملي كمرشد غير رسمي، قبل أن أرجع في وقت متأخر من صباح الغد أريح فيه بدني، لست وحدي على هذا الحال، شاب آخر يقضي ليلته في ساحة جامع الفنا يبيع البربوش قبل أن يأتي في الثالثة صباحا، عله يجد مكانا ضيقا ينام فيه مع عمه وأبنائه الأربعة. يضيف عبد الغني بكثير من المرارة أنه حين اكترى الغرفة اعتقد أن الكهرباء موجودة لكن بعد مرور أسبوع انقطع التيار، فعرف أن البيت بدون عداد وأن بعض الجيران هم من يمد البعض بخيط من الضوء، ليتساءل في نهاية كلامه عن أصحاب الانتخابات الذين يشنفون أسماعهم بكل كلام حلو لا يستطيع أن يرفع عنه بؤس ليلة واحدة ولا أن يطعم النفوس التسعة التي يعيلها. تقول السيدة خديجة التي تبدو في الخمسين من عمرها وتلبس ملابس رثة وأغلب أسنانها سقطت، وهي أرملة وأم لطفلة إنها رهنت غرفة بـ 2000 درهم وكراء 2000 درهم، تقول إن غرفتها بها ثقب يطل على خارج المنزل بإحدى العراصي حيث يبيت السكارى يتلفظون بألفاظ نابية، لقد مات زوجي والمال الذي جمعته كان من عند الجواد، اكتريت الغرفة وانتظر الفرج. بوح ما أن يتحدث أحد السكان، حتى يقاطعه آخر، كأنها فرصة ثمينة للتعبير عما يخالجهم في الوقت الذي تصر بعض النساء على أخذ صور كافية لهن، الكل يعرف أسرار الكل، مكترون أو راهنون هؤلاء ليسوا حالة فريدة في المدينة القديمة، إنهم نموذج لعائلات فقيرة كثيرة تستر عيبهم منازل قديمة توشك أن تسقط أو سقطت. وغالبا ما تتحول قسمات وجوههم المألوفة إلى نبرات أقرب إلى الحزن والتذمر منها إلى البشاشة وروح النكتة المعروف عن أهل المدينة، تقول السيدة فاطمة إنها أم لعدة أطفال، وهي تستفيق قبل أن يستفيق ديوك المدينة، لتتجه إلى سوق الخضر الجديد البعيد عن المدينة بحوالي 20 كيلومترا، تأتي بقليل من الخضر وتبيعها لكي تكسب أقل من 20 درهما في اليوم والليلة، تنتظر فاطمة في الخمسين من عمرها كل إعانة ولو قليلة، كل مرة تضطر إلى السفر إلى مدينة الصويرة حيث يعتقل ابنها فيما شقيقه معتقل في قلعة السراغنة، بينما الأب غائب تماما، لا يعرف مصير أبنائه وبنته الوحيدة التي تطمح إلى مستقبل أفضل. أما السيدة وفاء ذات الثلاثين سنة من عمرها، والتي عبرت عن طيبة أخلاق لا مثيل لها، يحس الكبار أنها بنتهم التي ترعاهم، ويحس الصغار أنها أمهم التي تعطف عليهم، تتكلم بقلب عامر بالصمود والإيمان، وتتذكر الأيام الخوالي مع زوجها عبد الرحيم، الذي كان يحسب له ألف حساب في الدرب، أما اليوم فنصيبه ركنة في الشارع يعمل على تقطيع بعض الجلود تنفعه في مهنته. كرامة تواصل وفاء كلامها بكثير من الأمل فتتحدث عن التعويض الذي يصل إلى 2 مليون سنتيم ترى فيها مخرجا لما هو فيه بالرغم من تعثر المساطر التي تفرض على رب المنزل أن يؤدي ثلث المبلغ، وتتحدث عن الجيران الذين يأتون بكل ما تجود به أنفسهم من طعام وشراب وغطاء، تتحدث عن ذلك الأجنبي الذي كلف نفسه العناء، وقدم لهم مساعدة مالية لشراء أغطية بلاستيكية، تتحدث عن قائد المنطقة الذي يسأل عنهم عبر الهاتف، ويزورهم في كل يوم أكثر من مرة، بل إنه اشترى الدواء للشابة حفصة التي سقطت مريضة في أول ليلة، بعد التعب الذي أصابها من خلال الجهد الذي بذلته وهي تتصل بالمسؤولين وبرجال الإعلام، واقترح على المصاب في حادثة السير أن يبقى بداره إلى حين التماثل للشفاء. وفاء، يقول سكان المنزل، كانت مثالا لوفاء بنت الدرب مع محنة أبناء الدرب، تنتظر أن يلتفت إليهم كبار المسؤولين، أو أن تشملهم رعاية ملكية من أجل توفير مسكن يليق بكرامة المواطن أي مواطن...