من الظواهر المقلقة التي يكاد جل الفاعلين التربويين والأسر والآباء بالتحديد، يجمعون على تصاعد حدة خطورتها مؤخرا، التدني المستمر للتحصيل الدراسي للتلاميذ بالرغم من تمتع هؤلاء بنوع من النباهة والذكاء في مختلف الأنشطة اليومية سيما على مستوى اللعب الإلكتروني، الشيء الذي يهدد راحة الأسرة لتبقى في حيرة من أمرها وأمر أبنائها ومستقبلهم، ففي الوقت الذي يلاحظون فيه نمو مستوى ذكاء الأطفال من خلال تدخلاتهم اليومية في شؤون البيت، يفاجؤون بتدني مستواهم التربوي والتعليمي. تتعدد الأسباب لهذه الظاهرة، فهناك من يرجع ذلك إلى الأسرة ذاتها، وهناك من يعتبر نبوغ الطفل ذكاء بمعنى الكلمة، لذلك آثرت التجديد أن تطرح الموضوع لعلنا نصل لموطن الداء من خلال تصريحات المتخصصين و رجال التعليم. توظيف الطاقات في اللعب تتحدث نعيمة مربية وأم لولدين عن تجربتها قائلة: انطلاقا من تربيتي لإبني ومن عملي أيضا كمربية بمؤسسة خاصة المستوى الثاني، أكاد أجزم أن هذا الجيل جد ذكي، لكن مستواه الدراسي سيئ للغاية إذا ما قورن مع مستوى الذكاء الذي يلاحظ عليهم، حيث يوظفون كل طاقتهم في اللعب، ويفضلون الألعاب الإلكترونية رغم صعوبتها، وفي الفصل تجدهم يتسابقون على الأجوبة لكن بشكل يشبه اللهو، كما أنهم يكرهون الكتابة والامتحانات الكتابية وكأنها ترهق تفكيرهم، وبالمقابل تضيف نعيمة، نجدهم كثيري الأسئلة ومحبين للمعرفة، لكن أثناء الامتحانات نفاجأ بضعف نتائج البعض منهم بالرغم من شرارة الذكاء التي تظهر من خلال تدخلهم في شؤون البيت وشؤوننا نحن الكبار. وبابتسامة خفيفة تصرح نعيمة، أحيانا ينصحني إبني الذي لم يتجاوز السابعة ربيعا بأشياء تغيب عني، مثلا طريقة امتصاص انفعالات أبيه المتواصل، وبالتالي فللآباء دور كبير في توجيه الأبناء بأن يكونوا نمودجا إيجابيا في البيت، لكن صعوبة الحياة تجعل هذا الأخير مكانا للخصام أكثر منه ملاذا للعطاء مما يؤثر سلبا مراقبة الأبناء داخل البيت بالشكل المطلوب. من جانبه يرى هشام أستاذ مادة الرياضيات، أنه بالرغم من وجود علاقة بين الذكاء العقلي والتحصيل الدراسي لكنهما لا يصنعان حتما من الشخص إنساناً ناجحاً، وكثيرا من عباقرة البشرية، يردد هشام، اعترضتهم عقبات في التعليم مثل (روزفلت، آينشتاين، دافنشي..)، لكنهم اجتهدوا ونجحوا في تخصصات معينة. ويؤكد هشام على ضرورة توجيه مهارات وذكاء الأبناء للدراسة، وتحصينهم بالمعتقدات والمبادئ، لكي لا نقدمهم للمدرسة كالوعاء الفارغ داخليا. من جهة أخرى، حمل هشام الأسرة الجزء الأكبر من مسؤولية تدنى مستوى التحصيل لدى أبناءها، على اعتبار أن هذه الأخيرة تعاني أيضا من مشكلة الأمية في ظل المناهج التعليمية المتطورة، كما للكتب المدرسية نصيب من الملل الذي يعيشه بعض التلاميذ بسبب ابتعاده على ثقافتهم الأم، وبالتالي يجب مراعاة هذا الجانب من نواحيه المختلفة، وتشرك الوزارة المدرسين فعليا فى وضع الكتب المدرسية واقتراح موضوعات تتلاءم مع خصوصية المجتمع المغربي. ويمكن أن نضيف تراجع الدور التربوي للأسرة في الدعم المنزلي والتتبع المدرسي للأبناء، ووجود قطيعة تواصلية بين المدرسة والأسرة، وتراجع صورة ووظيفة المدرسة التي كانت تعتمد التربية، وكان المعلم أوالأستاذ يأخذ على عاتقه توجيه الأذكياء من تلاميذ الفصل ويتحمل مسؤولية استثمار ذكائهم في التعلم. تقليد.. وليس ذكاء اعتبر أبو مروة، فاعل جمعوي أن الذكاء عند الأطفال هو ظاهرة مركبة ومعقدة تتفاعل فيها مجموعة من المكونات، المحيط الاجتماعي، وسائل الإعلام، الأنترنيت..، فالتنشئة الاجتماعية لبعض الأطفال جد معقدة ومتشابكة الأدوار وذلك راجع لخصوصيات المجتمع المغربي الذي يمتاز بتأثيرالأسرة الكبيرة عليه، والتي تدفع في غالب الأحيان بالطفل إلى تخطي بعض المراحل المهمة من طفولته وسط عائلة كبيرة أو بين أحضان جدته وجده، فتظهر عليه بعض ردود الفعل قد توهم الآخر بأنه يتمتع بذكاء قوي، وبالتالي يتعلم العديد من الأشياء ممن هم أكبر منه سنا مما يؤدي به إلى تجاوز سنه وتعامله كما الكبار. وتطرق أبو مروة أيضا للتطور الذي عرفته القنوات الفضائية سيما قنوات الأطفال التي تعتمد على الألعاب الالكترونية، والحرب، والصراع بين الأشرار والأخيار..، مما يجعل الأطفال يوضح المتحدث نفسه، يقلدون ما تقدمه هذه القنوات من أفلام الكرتون، وهذا لايؤدي إلى التفوق في المدرسة بالرغم من الذكاء الذي يظهر عليهم، لأن التفوق في اللعب ينبني على التكرار دون استعمال العقل. الذكاء..والدهاء أكد الأستاذ عبد الرحيم العطري، باحث في علم الاجتماع على ضرورة التمييز بين الذكاء والدهاء لدى الأطفال أوالشباب، قائلا في البدء لا بد من التمييز مفهوميا بين الذكاء والدهاء، فالأول يؤشر على نوع من التميز العقلي الذي يفيد النبوغ، أما الدهاء فيعبرعن نوع من التميز، ولكن في اتجاه الشطارة والحيلة. لهذا يتوجب التدقيق هل يتعلق الأمر بطفل ذكي ونابغ، أم بطفل يتوفر على مؤهلات في الشطارة والدهاء، فلو كان الأمر متصلا بالذكاء يضيف العطري، فلا أعتقد أن الصعوبات تكون في التحصيل الدراسي، بل على العكس من ذلك يكون الأطفال الأذكياء متفوقين على أقرانهم، وقد لا يحتاجون إلى دعم الأسرة المتمثل في المراجعة والاستذكار. في حين تكون المشاكل أكبر مع الأطفال الذين ينقصهم الذكاء، ويحضر لديهم بقوة عنصر الدهاء والشيطنة، فهؤلاء الأطفال لا يولون فائق العناية لمقرراتهم الدراسية، بل ينفقون جانبا مهما من الوقت في صناعة الألاعيب وتنفيذ المقالب، لهذا لا يعتبرون من المتفوقين. والواقع يصرح العطري، أن التعثر أوالإخفاق الدراسي الذي يعاني منه هؤلاء الأطفال تتداخل في صناعته عوامل متعددة يحضر فيها الذاتي و الموضوعي، فعلى صعيد الأسرة مثلا، يكون الطفل الداهية مرفوضا بشكل أوبآخر من طرف النسق القيمي الأسري والمدرسي، فهو الطفل المشاغب الذي لا يأتي من عنده إلا المكر والمقالب، لهذا كثيرا ما تهرع الأسرة والمدرسة إلى تبخيسه وقمعه، وهو ما يجعله يمعن في مسار الدهاء بدل التغير باتجاه التحصيل، وكأن الأمر يتعلق بمحاولة للاقتصاص من معارضيه، فكل حرمان مفترض يؤدي إلى عدوان مباشر وغير مباشر. وبالتالي فإن الفشل الدراسي يوضع العطري، لا يرد دوما إلى المعدل الذي قد يحصل عليه المرء في اختبار الذكاء والذي يسمى بالجرس أوالقبعة، و إنما يعود إلى الأسرة وتاريخها الدراسي أساسا، فضلا عن النظام المدرسي والسلطة التعليمية التي تعرض لها. وهناك أسباب عديدة مسؤولة عن الفشل الدراسي، الذي يعد ظاهرة بنيوية بامتياز، تمتد إلى الوضع السوسيواقتصادي للأسرة وخصوصيات المحيط الذي يتواجد فيه الطفل، فالفشل هونتيجة لاسبب، ينجم عن تضافر جملة من العوامل والظواهر، إنه محصلة نهائية لجدل عام يتوزع على الهشاشة في التربية والتأطير والحماية والتعليم والعناية الوالدية والمجتمعية.