في إطار التعريف بكتابات العلامة محمد المختار السوسي رحمه الله، واهتماماته الفكرية وحرصه على الخوض في فنون شتى مع الحفاظ على تدوينها، لتبقى في صوان التاريخ ـ على حد تعبيره ـ ارتأينا أن نلقي نظرة على ما كتبه في جانب الهيأة الاجتماعية السوسية، وسنبين هنا بعض ما كتبه عن العادات والتقاليد، وسننقل هنا أولا ما كتبه عن اللباس في مخطوط روايتهأحاديث سيدي حمو الشلحي في الأخلاق والعادات السوسية، ثم نعرج ثانيا على مخطوط كتابهأعراف إلغ وما إليها وننقل منه أيضا بعض العادات الإلغية والتي تخص ماكتبه عن العقيقة وعن الجنائز. ها نحن دخلنا في العشرية الرابعة، وهذا هو العدد الواحد والثلاثون من هذه السلسلة التي أردنا منها التعريف بكتابات والدنا وخصوصا المخطوطة منها، وكذا تبيان وتوضيح ما عرف وما لم يعرف عن أصناف كتاباته، وسنسير في حلقة هذا العدد على نفس المنوال وسنتطرق إلى موضوع كتابته عن الهيأة الاجتماعية. وإن المتتبع لكتابات العلامة محمد المختار السوسي كما قلنا، يلاحظ من الوهلة الأولى تنوع المجالات العديدة التي كتب فيها، وهذا كله يظهر جليا في الكتيب الدليل، الذي نشرناه عن أعماله ومؤلفاته(دليل مؤلفات ومخطوطات العلامة: رضى الله محمد المختار السوسي). ومن الجوانب التي في الكتيب، سنقف اليوم عند جانب الثقافة الشعبية والتراثية، وقد كنا ذكرنا فيه خمسة مخطوطات له، وقد كان القارئ العزيز قد اطلع في هذه السلسلة في ما ذكرناه عن مخطوط كتابه قطائف اللطائف، الذي خصه لبعض النوادر والحكايات والمضحكات السوسية، وكذا ما كنا ذكرناه عن بحثه اللسني الذي تتبع فيه الألفاظ العربية الموجودة في الشلحة السوسية، وذكر فيه مدى تأثر العربية في الشلحة السوسية، وذلك في مخطوط كتابه الألفاظ العربية في الشلحة السوسية ومما ذكرناه أيضا في ذلك الجانب ما جمعه عن أمثال الشلحيين وحكمهم نظما ونثرا، وأما المؤلفين المتبقيين فهماأعراف إلغ وما إليهاالذي خصه لذكر عادات وتقاليد (إلغ)ونواحيها، والمؤلف الآخر هو روايتهأحاديث سيدي حمو الشلحي أو اخلاق وعادات سوسية. وهي رواية خيالية تجري محاوراتها بين فقيه شاب وشيخ مسن معتكف بأحد الجبال بسوس، حاول الشاب الفقيه أن يقنع الشيخ المسن بالابتعاد عن خلوته ومخالطة الناس، وبعد عدة محاورات بينهما اقتنع الشيخ المسن (سيدي حمو)أخيرا بمغادرة الخلوة واتفق مع الفقيه الشاب على القيام بجولة في أنحاء سوس لمداخلة الطبقات المختلفة فيه، وتواعدا على ان يبين سيدي حمو للفقيه كل ما يعرفه عن عوائد القوم، وقد كنا ذكرنا في الحلقات الأولى من هذه السلسلة وبينا محورا من المحاور التي جرت بين الفقيه الشاب والشيخ المسن عن محور الإسلام اليوم وهل مازال عما كان عليه وكنا قد عنوناه في تلك الحلقةما السبيل لسيادة الإسلام في هذا الزمان. وفي موضوع حلقتنا اليوم عن الهيأة الاجتماعية السوسية وما كتبه والدنا عن العادات والتقاليد ارتأينا ان نذكر ما كتبه عن اللباس في روايته أحاديث سيدي حمو الشلحي، ونذكر بعد ذلك بعض ما جاء في مخطوط أعراف إلغ وما إليها، واخترنا لك أيها القارئ ما كتبه عن العقيقة والجنائز، ولا يفوتنا أن نذكر أن ما جاء في هذا المخطوط (الأخير) الذي خصه مؤلفـــــه لذكر العــــــــادات والتقاليـــــــــــد لقريتـــــــه(إلغ) ونواحيها ليس هو ما كتبه في الجزء الأول من موسوعتهالمعسول، لأنه بعد ما قرأنا ما كتب فيهما اتضح لنا بعض الاختلاف بينهما وأن ما كتب في المخطوط يزيد كثيرا عن ما دون في الجزء الأول من المعسول، وستلاحظ بنفسك قارئنا العزيز هذا الاختلاف بينهما عند قراءتك لما كتب هنا وما كتب في المعسول، وبذلك تعرف أن ما كتبه العلامة والدنا عن العادات والتقاليد السوسية ليس ما اختص به الجزء الأول من المعسول وحده، بل هناك روايته أحاديث سيدي حمو الشلحي في الأخلاق والعادات والسوسية ومخطوط كتابه أعراف إلغ وما إليها في العادات والتقاليد الإلغية. رضى الله عبد الوافي المختار السوسي المكلف بنشر تراث والده للاتصال: 070469751 العقيقة.. الأعــــــراف والتسميـــــــة إذا ولدت المرأة وتملصت القَائِبة من قَوبه، واستبشر الأهل ودمتِ البشائر، تتناول القابلة المولود أو المولودة، فاول ما يفعل به أن تؤذن في أذنه اليمنى وتقيم فيها، ثم بعد أن تقطع سرته على العادة بموسًى، ثم تخبأَ هذه الموسى ولابد لما سنذكره، فتصرُّ صرة فيها رمل وملح، فتشد على كوع اليد اليمنى من المولود، ثم يُعمد إلى قفة فيجعل فيها تبن وملح، وتحتها تلك الموسى المذكورة فهناك تخبأ، ثم تكون هذه القفة مهدا للطفل، فيوضع فيها على ذلك التبن، ولا يفعل له المهد المعلق إلا بعد العقيقة، ثم إن كان الطفل بكر الوالدة فلابد أن يبعد عن القمُصِ، وإنما يلوى في خرقة، ثم لا يلبس قميصا إلا بعد الأسبوع إذا عق عنه، وإن لم يكن بكرها فلا بأس له يلبس القميص من أول يوم، ثم يترك بلا رضاع إلى اليوم الثالث، فقلت للحاكية: لماذا تتركنه بلا رضاع، فزعمت أن اللبان لا يدر إلا بعد ثلاث، فإذ ذاك تحس الوالدة بدبيبة في شرايين صدرها، هكذا زعمت، ثم في هذه الأيام الأولى تنثال إلى النفساء النساء يتطلبن منها الدعاء، معتقدات أنها مغفور لها مغفرة عزما، وتأتي كل زائرة بطبق دقيق مع بيض على حسب الطاقة، ثم يعمد أهل النفساء في اليوم الثالث إلى طبخ العصيدة للجيران ولمن حضر، فتملأ القصاع بها، وفي وسطها حفر مملوءة زيتا، ويكون ذلك عند الضحى، وكأن لسان الحال إذ ذاك ينشد:(لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى)، ثم تطلى رؤوس الصبيان بالحناء، فهذا ما يفعل في الأيام الثلاثة الأولى، ثم نتخطى الأيام الباقية في الأسبوع، حيث تهدأ العائلة لتستعد للعقيقة، ولترفع لذوي الرحم والصواحب والجارات الاستدعاءات في اليوم السابع. تطلع الشمس في اليوم السابع، والدار تموج بالزائرات، والكبش يصرخ إما في المطبخ أو في دهليز الدار، فإذا متع النهار سيق الكبش فطوق بالقلادة الحمراء، ثم يسلخ فتبين القشرة البيضاء، ثم يبقر عن بطنه فتندلق الكبد السوداء، فتكون أول ما يؤخذ إلى مجثم الأثافي، فتشوى في إناء مبسوط يخبز فيه يسمى في(إلغ)أَفْلُّونْ، ثم في الحين الذي تشوى فيه الكبد، يلتئم مجمع الزائرات على طبق فيه كل ما تهديه الزائرات من الإنصاف والأرباع الفضية، والتمائم التعاويذ، وحروز بعضها مغلف بالنحاس، وبعضها من الفضة، فتنظم قلادة الولد من ذلك، فإذا اعتدت الطاهية الكبد، تشتغل بعض الحاضرات بقطعها أفلاذا صغيرة، بتلك الموسى التي خبئت لهذا، ولا أخال نستها بعد أن قطعت بها السرة، وفي حين أن القابلة تقوم إلى الصبيان الصغار الذين حضروا، فتستنفرهم وفي يدها أفّال وهو العود الذي تلت به العصيدة عند طبخها، فتسوقهم إلى محلات الحطب ليلتقطوا أعوادا صغارا، يجمعونها أضغاثا في أذرعهم الصغيرة، ثم تؤوب بهم فيضعون كل ما جمعوا إزاء الأثافي، ثم تفرق عليهم من أفلاذ تلك الكبد، تقطع كل فلذة إما على تمرة أو على كسرة من الخبز، ومن لم يمتثل من الصبيان فإنه لا يعطى من الكبد، ثم تطبخ بهذه الأضغاث الخبزة الكبيرة المسماة توفديلت، ويسمى المولود عند الذبيحة بين النساء في الدار من غير أن يقال ذلك لمن يذبح الكبش، والتسمية من خصائص الأب، ولا مدخل في ذلك للنساء إلا إذا كانت بنتا، وربما يتساهل الآباء في أمرها، فيفوضون للأمهات تسميتها، وقد يسمى المولود في الأسبوع مباركا، والأنثى مباركة. وفي يوم العقيقة يكسى الصبي قميصا من القمُص التي تهدى من الزائرات، لأن كل واحدة لابد أن تهدي إما قميصا صغيرا أو قلمونا، وهو غطاء للرأس كالغطاء الذي يتصل بالجلباب، غير أنه يكون وحده فيتدلى بين كتفي الصبي، والعادة في إلغ وما إليها، أن الصبيان يمتغطون بالقلامين، إلى أن يتجاوز ثماني سنين ونحو ذلك، ويتخذ غالبا من الصوف، أو من الكتان الأسود، ثم إذا كان من الصوف، فإنه يزخرف بطرف مهندسة صغيرة من ماء الحناء، فتبين الطرف الحمراء على الصوف البيضاء بحسب فإن طرفة يصفها حيث يقول:(بقايا الوشم في ظاهر اليد)، ومثل هذا يصنع بقمصان الصبيان الصغار المصنوعة من الصوف، فإنها تزخرف أيضا بمثل تلك الطرف الصغيرة من ماء الحناء في أعاليه، مما يسامت الصدور فوق الكتفين، وما بقائل ذلك وراء، وأما إذا كان أقلمون من الكتان الأسود، فإنه يوشي بالخياطة، وبخرق بيضاء وحمراء مدنرة ومدرهمة، فيتمشى الوشي معه إلى الحد الذي يلي القفا، وما دون ذلك يبقى كما كان، فكانت النساء يرصدن أمثال هذه القمصان والقلامين للعقائق ليفدن بها إلى الوالدات، ولابد أيضا مع ذلك كما ذكرناه من بعض دراهم أو أرباع أو أنصاف مثقوبة للقلادة. فالآن وقد سمينا الولد، ونظمنا القلادة كما ينبغي مرصعة بالدراهم والحروز والتمائم والتعاويذ، فإنه يعمد إلى صبي لا يزال أبواه حيين، فيتناول القلادة إلى مخزن الشعير فيجرها من فوقه بيديه، ثم تعلق في أذن المولود، ثم يشتغل الأهل بإعداد الطعام للطلبة، الذين يأتون من المسجد ليقرأوا ختمة من القرآن فيطعمون، وبما يفضل على من بالمسجد بجفنة وجفنتين على حسب الطاقة، فيأكل هناك من لم يحضر في دار أهل العقيقة. ثم إن أم الوالدة إن كان المولود بكرها، فلابد من بقرة أو عجل أو كبش كل على قدره، وإذا لم يكن بكرها فما تيسر، ومعلوم أن النساء لا يقصرن الإتيان ما وجدوه إلى العمل سبيلا، هكذا يطوى يوم العقيقة طي السجل للكتاب، فلنطو نحن كلامنا. من اليوم السابع إلى أن يتم الشهر عن المولود، فإن أمه تزيره جدته، فتحل دار أمها بعد أن ظهرت نتيجة خروجها منه، فتتلو هناك سورا أخرى لعلك تكون في عجب مثلي إن كنت معي لها من المستمعين: يجتمع مجمع الأهل تحت رياسة الجدة، وكأني بها وقد شمخت بأنفها، وظنت أنها تناولت يدها الثريا، حيث شاهدت فرع فرعها، وتلك لذة لا يدركها إلا النساء، فيبرز المولودُ بين الأيادي وقد أحدقت به الأبصار، وتلألأ في قماطه وفل في قلادته، فتعمد إحداهن إلى القلادة فتبتر سلكها من الوسط بموسى، فينتثر كل ما فيه، ثم تنظم من جديد في سلك آخر، ثم إذا شاءت الوالدة أن تزداد في الولادة، وتمنت أن يكون لهذا المولود أتباع آخرون فإنها تزيد في القلادة شيئا آخر كما كان فيها قبل، وإن اكتفت من الأولاد نقصتها وألقت بعض ما كان فيها، ثم يوتى بقمح فتأخذ يد المولود فيحرك بها يمينا وشمالا، تفاؤلا أن يخوض المولود في الخيرات طول عمره المديد، ثم يؤتى بآلة من حديد كأنها ملقط صغير تعلقه جميع نسائنا في صدورهن، يلتقطن بها الشوكة ممن شيكها، فتعمد امرأة إلى رجلي المولود كأنها تزيل الأشواك من تحت قدميه، يُفعل ذلك تفاءلا أن يكون المولود ممن يعمل في حقوله ومزارعه حتى تصيبه الأشواك، فبهذا العمل يُختم آخر عمل يتعلق بالمولود، ثم يترك في يد الله، فإن شاء أنبته نباتا حسنا، وجعله قرة أعين والديه، وإن شاء غير ذلك فلا مرد لقضائه. بهذه الكلمات ختمت من حكت لي عن العقيقة حديثها، فليكن ذلك لحديثنا أيضا ختاما. الجنــائـــز إذا احتضر الميت وشق بصره، وظهرت عليه علامات المنون ظهورا بينا لا يشك فيه، يُستقبل به القبلة، وتقال الشهادة حواليه، من غير أن يقال له: قل، ويخفت الحاضرون أصواتهم عنده، فتراهم كأنما على رؤوسهم الطير، لعظم المقام ولجلال الموت، ثم إذا فاضت روحه ولحقت بالرفيق الأعلى، يسجى ويجعل على بطنه مثقلا لئلا ينتفخ، وترى الأهل في خفوت وصمت، وكظم ما تتلظى به النفوس، فقلما ترى من يبكي إلا إذا كان مغلوبا على حاله، فتجري شؤونه عبرات، من غير أن يسمع له صوت، ثم إن من رآه مع ذلك ينهنهه عما هو عليه، ويأمره بالتجلد وأن يرى الشامتين كيف يكون الصبر والتسلي، ثم يسرج في المحل الذي خرجت فيه الروح قنديل معلق، لا يزال دائم الاشتعال ثلاث ليال متواصلة، ويزعم أن ذلك للإضاءة للملائكة، والعجائز يوصين على ذلك، ويعقدن على عدم تركِه الخناصر، ثم يغسل الميت في صموت، وما هناك إلا إيماءات أن إحتاج الغاسلون لشيء، وقلما يصدر كلام خافت، إلا إذا لم تفد الإشارة، ثم يكفن، وتعدد الأكفان ووترها وتوحيدها على حسب الطاقة، ثم تطيب بما تيسر، ولا تخرج الجنازة حتى تأخذ قرينة الميت عمامته لتتقبع بها، وقميصا من قمصه تقطعه لتتسربله، ثم تخرج الجنازة والناس حاضرون، فتخرج معه خبزة أو ما تيسر، تفرق على مساكين أمام باب الدار أو ما وراء ذلك، ثم يسار بها وهي محمولة في شبكة من شباك الحلْفاء وهي المتيسرة، لأن الناس يجمعون بها حصائد مزروعاتهم من الحقول، ويحتطبون فيها من المحاطب، ولم يعرف في (إلغ) النعش الذي عناه كعب بقوله: كل ابن انثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول فنقول نحن إن أخطأته الآلة الحدباء فإن هناك شباكا من الحلْفاء، والكل يوصل إلى القبر، ويوذن بانقضاء العمر. ثم عندنا نحن هناك سنة لم تكن معهودة عند غيرنا فيما أعلم، وهي أنه يسرع بالجنائز بعض إسراع، وذلك هو السنة، ثم إن الذين يشيعون يهيللون بصيغة واحدة، وذلك أخف من هذه الضوضاء والجلبة التي وصفها أمير الشعراء أحمد شوقي في قوله: أرى زمرا مجمعة وأسمع أيما صــــوت ولو علموا لما نبسوا جلال المرْت في الموت وإذا وصلوا شفير القبر، وقد هيء حفرة طويلة من غير أن تبنى حواشيها بأي شيء، فيودع فيها الميت، والثوب مبسوط مطولا على أرؤس الذين يودعونه فيها، وهم ساكتون أيضا لا ينبس أحد من كل من يزاول ما حوالي القبر ببنت شفة، والطلبة إذ ذاك منتبذون ناحية يقرأون سورة يس فيكملونها مع إكمال القبر الذي يزاول بسرعة عظيمة، ثم يغطى القبر بصفائح ملساء من الأحجار، تكون عريضة طويلة كأنها تمت إلى الرخام بنسب، وربما تكون صفيحة واحدة كافية للقبر من جانب إلى جانب، ثم يسنم القبر ويوضع على حدي طوله أحجار قائمة تبرز فوق القبر بما يناهز الذراع، ثم يرش القبر وما حواليه بماء، ثم يدعو الناس فينصرفون، وليس من العادة ان يفرق هناك أية صدقة. ثم إذا رجع أهل الميت يعمدون إلى الفأس الذي حفر به القبر والقفة والشبكة والرداء الذين حمل فيها الميت، فيلقى كل ذلك في براز ليس بينه وبين السماء غطاء، فإما في السطح أو في ساحة الدار، وذلك لا بد منه وإن كانت مستعارة من الغير. ثم في اليوم الثالث يقام معروف الميت، وهو عبارة عن طعام يصنعه أهل الميت، فيستدعون إليه حفظة القرآن، فيقرؤون ختمة منه، فيطعمون، ثم ترسل إلى المسجد قصعة واحدة أو أكثر على حسب الطاقة، فيتناول منها من في المسجد، ثم إن القبر بعد أن يسنم كما ذكرنا يوضع عليه زرب يثقل بالأحجار لئلا تعتدي عليه الوحوش فتستخرجه، وتلقى على ذلك الزرب قصبة أو عود كان أخذ به قدر قامة الميت ليتخذ بها مقياس القبر، ثم لا يزال هذا الزرب عليه حتى تمضي أربعة أشهر، فيزال فيصنع طعام آخر مثل ذلك الذي يصنع في اليوم الثالث، ثم ينتهي الأمر وينقطع آخر خيط يصل به الميت وبين أهله، إلا من وفقهم الله فيتعهدون بالصدقات والدعوات، وقليل ما هم، إلا ما كان من العجائز، فإنهن أثبت الناس عهدا فيما بينها وبين موتاهن في كل زمان وفي كل مكان، لانهن بين أخوات أو أمهات أو زوجات، ومتى يجد النسيان إلى قلوب هذه سبيلا. من مخطوط أعراف إلغ وما إليها للمرحوم العلامة محمد المختار السوسي ـ الناشرـ في إطار التعريف بكتابات العلامة محمد المختار السوسي رحمه الله، واهتماماته الفكرية وحرصه على الخوض في فنون شتى مع الحفاظ على تدوينها، لتبقى في صوان التاريخ ـ على حد تعبيره ـ ارتأينا أن نلقي نظرة على ما كتبه في جانب الهيأة الاجتماعية السوسية، وسنبين هنا بعض ما كتبه عن العادات والتقاليد، وسننقل هنا أولا ما كتبه عن اللباس في مخطوط روايتهأحاديث سيدي حمو الشلحي في الأخلاق والعادات السوسية، ثم نعرج ثانيا على مخطوط كتابهأعراف إلغ وما إليها وننقل منه أيضا بعض العادات الإلغية والتي تخص ماكتبه عن العقيقة وعن الجنائز. ها نحن دخلنا في العشرية الرابعة، وهذا هو العدد الواحد والثلاثون من هذه السلسلة التي أردنا منها التعريف بكتابات والدنا وخصوصا المخطوطة منها، وكذا تبيان وتوضيح ما عرف وما لم يعرف عن أصناف كتاباته، وسنسير في حلقة هذا العدد على نفس المنوال وسنتطرق إلى موضوع كتابته عن الهيأة الاجتماعية. وإن المتتبع لكتابات العلامة محمد المختار السوسي كما قلنا، يلاحظ من الوهلة الأولى تنوع المجالات العديدة التي كتب فيها، وهذا كله يظهر جليا في الكتيب الدليل، الذي نشرناه عن أعماله ومؤلفاته(دليل مؤلفات ومخطوطات العلامة: رضى الله محمد المختار السوسي). ومن الجوانب التي في الكتيب، سنقف اليوم عند جانب الثقافة الشعبية والتراثية، وقد كنا ذكرنا فيه خمسة مخطوطات له، وقد كان القارئ العزيز قد اطلع في هذه السلسلة في ما ذكرناه عن مخطوط كتابه قطائف اللطائف، الذي خصه لبعض النوادر والحكايات والمضحكات السوسية، وكذا ما كنا ذكرناه عن بحثه اللسني الذي تتبع فيه الألفاظ العربية الموجودة في الشلحة السوسية، وذكر فيه مدى تأثر العربية في الشلحة السوسية، وذلك في مخطوط كتابه الألفاظ العربية في الشلحة السوسية ومما ذكرناه أيضا في ذلك الجانب ما جمعه عن أمثال الشلحيين وحكمهم نظما ونثرا، وأما المؤلفين المتبقيين فهماأعراف إلغ وما إليهاالذي خصه لذكر عادات وتقاليد (إلغ)ونواحيها، والمؤلف الآخر هو روايتهأحاديث سيدي حمو الشلحي أو اخلاق وعادات سوسية. وهي رواية خيالية تجري محاوراتها بين فقيه شاب وشيخ مسن معتكف بأحد الجبال بسوس، حاول الشاب الفقيه أن يقنع الشيخ المسن بالابتعاد عن خلوته ومخالطة الناس، وبعد عدة محاورات بينهما اقتنع الشيخ المسن (سيدي حمو)أخيرا بمغادرة الخلوة واتفق مع الفقيه الشاب على القيام بجولة في أنحاء سوس لمداخلة الطبقات المختلفة فيه، وتواعدا على ان يبين سيدي حمو للفقيه كل ما يعرفه عن عوائد القوم، وقد كنا ذكرنا في الحلقات الأولى من هذه السلسلة وبينا محورا من المحاور التي جرت بين الفقيه الشاب والشيخ المسن عن محور الإسلام اليوم وهل مازال عما كان عليه وكنا قد عنوناه في تلك الحلقةما السبيل لسيادة الإسلام في هذا الزمان. وفي موضوع حلقتنا اليوم عن الهيأة الاجتماعية السوسية وما كتبه والدنا عن العادات والتقاليد ارتأينا ان نذكر ما كتبه عن اللباس في روايته أحاديث سيدي حمو الشلحي، ونذكر بعد ذلك بعض ما جاء في مخطوط أعراف إلغ وما إليها، واخترنا لك أيها القارئ ما كتبه عن العقيقة والجنائز، ولا يفوتنا أن نذكر أن ما جاء في هذا المخطوط (الأخير) الذي خصه مؤلفـــــه لذكر العــــــــادات والتقاليـــــــــــد لقريتـــــــه(إلغ) ونواحيها ليس هو ما كتبه في الجزء الأول من موسوعتهالمعسول، لأنه بعد ما قرأنا ما كتب فيهما اتضح لنا بعض الاختلاف بينهما وأن ما كتب في المخطوط يزيد كثيرا عن ما دون في الجزء الأول من المعسول، وستلاحظ بنفسك قارئنا العزيز هذا الاختلاف بينهما عند قراءتك لما كتب هنا وما كتب في المعسول، وبذلك تعرف أن ما كتبه العلامة والدنا عن العادات والتقاليد السوسية ليس ما اختص به الجزء الأول من المعسول وحده، بل هناك روايته أحاديث سيدي حمو الشلحي في الأخلاق والعادات والسوسية ومخطوط كتابه أعراف إلغ وما إليها في العادات والتقاليد الإلغية. رضى الله عبد الوافي المختار السوسي المكلف بنشر تراث والده للاتصال: 070469751 العقيقة.. الأعــــــراف والتسميـــــــة إذا ولدت المرأة وتملصت القَائِبة من قَوبه، واستبشر الأهل ودمتِ البشائر، تتناول القابلة المولود أو المولودة، فاول ما يفعل به أن تؤذن في أذنه اليمنى وتقيم فيها، ثم بعد أن تقطع سرته على العادة بموسًى، ثم تخبأَ هذه الموسى ولابد لما سنذكره، فتصرُّ صرة فيها رمل وملح، فتشد على كوع اليد اليمنى من المولود، ثم يُعمد إلى قفة فيجعل فيها تبن وملح، وتحتها تلك الموسى المذكورة فهناك تخبأ، ثم تكون هذه القفة مهدا للطفل، فيوضع فيها على ذلك التبن، ولا يفعل له المهد المعلق إلا بعد العقيقة، ثم إن كان الطفل بكر الوالدة فلابد أن يبعد عن القمُصِ، وإنما يلوى في خرقة، ثم لا يلبس قميصا إلا بعد الأسبوع إذا عق عنه، وإن لم يكن بكرها فلا بأس له يلبس القميص من أول يوم، ثم يترك بلا رضاع إلى اليوم الثالث، فقلت للحاكية: لماذا تتركنه بلا رضاع، فزعمت أن اللبان لا يدر إلا بعد ثلاث، فإذ ذاك تحس الوالدة بدبيبة في شرايين صدرها، هكذا زعمت، ثم في هذه الأيام الأولى تنثال إلى النفساء النساء يتطلبن منها الدعاء، معتقدات أنها مغفور لها مغفرة عزما، وتأتي كل زائرة بطبق دقيق مع بيض على حسب الطاقة، ثم يعمد أهل النفساء في اليوم الثالث إلى طبخ العصيدة للجيران ولمن حضر، فتملأ القصاع بها، وفي وسطها حفر مملوءة زيتا، ويكون ذلك عند الضحى، وكأن لسان الحال إذ ذاك ينشد:(لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى)، ثم تطلى رؤوس الصبيان بالحناء، فهذا ما يفعل في الأيام الثلاثة الأولى، ثم نتخطى الأيام الباقية في الأسبوع، حيث تهدأ العائلة لتستعد للعقيقة، ولترفع لذوي الرحم والصواحب والجارات الاستدعاءات في اليوم السابع. تطلع الشمس في اليوم السابع، والدار تموج بالزائرات، والكبش يصرخ إما في المطبخ أو في دهليز الدار، فإذا متع النهار سيق الكبش فطوق بالقلادة الحمراء، ثم يسلخ فتبين القشرة البيضاء، ثم يبقر عن بطنه فتندلق الكبد السوداء، فتكون أول ما يؤخذ إلى مجثم الأثافي، فتشوى في إناء مبسوط يخبز فيه يسمى في(إلغ)أَفْلُّونْ، ثم في الحين الذي تشوى فيه الكبد، يلتئم مجمع الزائرات على طبق فيه كل ما تهديه الزائرات من الإنصاف والأرباع الفضية، والتمائم التعاويذ، وحروز بعضها مغلف بالنحاس، وبعضها من الفضة، فتنظم قلادة الولد من ذلك، فإذا اعتدت الطاهية الكبد، تشتغل بعض الحاضرات بقطعها أفلاذا صغيرة، بتلك الموسى التي خبئت لهذا، ولا أخال نستها بعد أن قطعت بها السرة، وفي حين أن القابلة تقوم إلى الصبيان الصغار الذين حضروا، فتستنفرهم وفي يدها أفّال وهو العود الذي تلت به العصيدة عند طبخها، فتسوقهم إلى محلات الحطب ليلتقطوا أعوادا صغارا، يجمعونها أضغاثا في أذرعهم الصغيرة، ثم تؤوب بهم فيضعون كل ما جمعوا إزاء الأثافي، ثم تفرق عليهم من أفلاذ تلك الكبد، تقطع كل فلذة إما على تمرة أو على كسرة من الخبز، ومن لم يمتثل من الصبيان فإنه لا يعطى من الكبد، ثم تطبخ بهذه الأضغاث الخبزة الكبيرة المسماة توفديلت، ويسمى المولود عند الذبيحة بين النساء في الدار من غير أن يقال ذلك لمن يذبح الكبش، والتسمية من خصائص الأب، ولا مدخل في ذلك للنساء إلا إذا كانت بنتا، وربما يتساهل الآباء في أمرها، فيفوضون للأمهات تسميتها، وقد يسمى المولود في الأسبوع مباركا، والأنثى مباركة. وفي يوم العقيقة يكسى الصبي قميصا من القمُص التي تهدى من الزائرات، لأن كل واحدة لابد أن تهدي إما قميصا صغيرا أو قلمونا، وهو غطاء للرأس كالغطاء الذي يتصل بالجلباب، غير أنه يكون وحده فيتدلى بين كتفي الصبي، والعادة في إلغ وما إليها، أن الصبيان يمتغطون بالقلامين، إلى أن يتجاوز ثماني سنين ونحو ذلك، ويتخذ غالبا من الصوف، أو من الكتان الأسود، ثم إذا كان من الصوف، فإنه يزخرف بطرف مهندسة صغيرة من ماء الحناء، فتبين الطرف الحمراء على الصوف البيضاء بحسب فإن طرفة يصفها حيث يقول:(بقايا الوشم في ظاهر اليد)، ومثل هذا يصنع بقمصان الصبيان الصغار المصنوعة من الصوف، فإنها تزخرف أيضا بمثل تلك الطرف الصغيرة من ماء الحناء في أعاليه، مما يسامت الصدور فوق الكتفين، وما بقائل ذلك وراء، وأما إذا كان أقلمون من الكتان الأسود، فإنه يوشي بالخياطة، وبخرق بيضاء وحمراء مدنرة ومدرهمة، فيتمشى الوشي معه إلى الحد الذي يلي القفا، وما دون ذلك يبقى كما كان، فكانت النساء يرصدن أمثال هذه القمصان والقلامين للعقائق ليفدن بها إلى الوالدات، ولابد أيضا مع ذلك كما ذكرناه من بعض دراهم أو أرباع أو أنصاف مثقوبة للقلادة. فالآن وقد سمينا الولد، ونظمنا القلادة كما ينبغي مرصعة بالدراهم والحروز والتمائم والتعاويذ، فإنه يعمد إلى صبي لا يزال أبواه حيين، فيتناول القلادة إلى مخزن الشعير فيجرها من فوقه بيديه، ثم تعلق في أذن المولود، ثم يشتغل الأهل بإعداد الطعام للطلبة، الذين يأتون من المسجد ليقرأوا ختمة من القرآن فيطعمون، وبما يفضل على من بالمسجد بجفنة وجفنتين على حسب الطاقة، فيأكل هناك من لم يحضر في دار أهل العقيقة. ثم إن أم الوالدة إن كان المولود بكرها، فلابد من بقرة أو عجل أو كبش كل على قدره، وإذا لم يكن بكرها فما تيسر، ومعلوم أن النساء لا يقصرن الإتيان ما وجدوه إلى العمل سبيلا، هكذا يطوى يوم العقيقة طي السجل للكتاب، فلنطو نحن كلامنا. من اليوم السابع إلى أن يتم الشهر عن المولود، فإن أمه تزيره جدته، فتحل دار أمها بعد أن ظهرت نتيجة خروجها منه، فتتلو هناك سورا أخرى لعلك تكون في عجب مثلي إن كنت معي لها من المستمعين: يجتمع مجمع الأهل تحت رياسة الجدة، وكأني بها وقد شمخت بأنفها، وظنت أنها تناولت يدها الثريا، حيث شاهدت فرع فرعها، وتلك لذة لا يدركها إلا النساء، فيبرز المولودُ بين الأيادي وقد أحدقت به الأبصار، وتلألأ في قماطه وفل في قلادته، فتعمد إحداهن إلى القلادة فتبتر سلكها من الوسط بموسى، فينتثر كل ما فيه، ثم تنظم من جديد في سلك آخر، ثم إذا شاءت الوالدة أن تزداد في الولادة، وتمنت أن يكون لهذا المولود أتباع آخرون فإنها تزيد في القلادة شيئا آخر كما كان فيها قبل، وإن اكتفت من الأولاد نقصتها وألقت بعض ما كان فيها، ثم يوتى بقمح فتأخذ يد المولود فيحرك بها يمينا وشمالا، تفاؤلا أن يخوض المولود في الخيرات طول عمره المديد، ثم يؤتى بآلة من حديد كأنها ملقط صغير تعلقه جميع نسائنا في صدورهن، يلتقطن بها الشوكة ممن شيكها، فتعمد امرأة إلى رجلي المولود كأنها تزيل الأشواك من تحت قدميه، يُفعل ذلك تفاءلا أن يكون المولود ممن يعمل في حقوله ومزارعه حتى تصيبه الأشواك، فبهذا العمل يُختم آخر عمل يتعلق بالمولود، ثم يترك في يد الله، فإن شاء أنبته نباتا حسنا، وجعله قرة أعين والديه، وإن شاء غير ذلك فلا مرد لقضائه. بهذه الكلمات ختمت من حكت لي عن العقيقة حديثها، فليكن ذلك لحديثنا أيضا ختاما. الجنــائـــز إذا احتضر الميت وشق بصره، وظهرت عليه علامات المنون ظهورا بينا لا يشك فيه، يُستقبل به القبلة، وتقال الشهادة حواليه، من غير أن يقال له: قل، ويخفت الحاضرون أصواتهم عنده، فتراهم كأنما على رؤوسهم الطير، لعظم المقام ولجلال الموت، ثم إذا فاضت روحه ولحقت بالرفيق الأعلى، يسجى ويجعل على بطنه مثقلا لئلا ينتفخ، وترى الأهل في خفوت وصمت، وكظم ما تتلظى به النفوس، فقلما ترى من يبكي إلا إذا كان مغلوبا على حاله، فتجري شؤونه عبرات، من غير أن يسمع له صوت، ثم إن من رآه مع ذلك ينهنهه عما هو عليه، ويأمره بالتجلد وأن يرى الشامتين كيف يكون الصبر والتسلي، ثم يسرج في المحل الذي خرجت فيه الروح قنديل معلق، لا يزال دائم الاشتعال ثلاث ليال متواصلة، ويزعم أن ذلك للإضاءة للملائكة، والعجائز يوصين على ذلك، ويعقدن على عدم تركِه الخناصر، ثم يغسل الميت في صموت، وما هناك إلا إيماءات أن إحتاج الغاسلون لشيء، وقلما يصدر كلام خافت، إلا إذا لم تفد الإشارة، ثم يكفن، وتعدد الأكفان ووترها وتوحيدها على حسب الطاقة، ثم تطيب بما تيسر، ولا تخرج الجنازة حتى تأخذ قرينة الميت عمامته لتتقبع بها، وقميصا من قمصه تقطعه لتتسربله، ثم تخرج الجنازة والناس حاضرون، فتخرج معه خبزة أو ما تيسر، تفرق على مساكين أمام باب الدار أو ما وراء ذلك، ثم يسار بها وهي محمولة في شبكة من شباك الحلْفاء وهي المتيسرة، لأن الناس يجمعون بها حصائد مزروعاتهم من الحقول، ويحتطبون فيها من المحاطب، ولم يعرف في (إلغ) النعش الذي عناه كعب بقوله: كل ابن انثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول فنقول نحن إن أخطأته الآلة الحدباء فإن هناك شباكا من الحلْفاء، والكل يوصل إلى القبر، ويوذن بانقضاء العمر. ثم عندنا نحن هناك سنة لم تكن معهودة عند غيرنا فيما أعلم، وهي أنه يسرع بالجنائز بعض إسراع، وذلك هو السنة، ثم إن الذين يشيعون يهيللون بصيغة واحدة، وذلك أخف من هذه الضوضاء والجلبة التي وصفها أمير الشعراء أحمد شوقي في قوله: أرى زمرا مجمعة وأسمع أيما صــــوت ولو علموا لما نبسوا جلال المرْت في الموت وإذا وصلوا شفير القبر، وقد هيء حفرة طويلة من غير أن تبنى حواشيها بأي شيء، فيودع فيها الميت، والثوب مبسوط مطولا على أرؤس الذين يودعونه فيها، وهم ساكتون أيضا لا ينبس أحد من كل من يزاول ما حوالي القبر ببنت شفة، والطلبة إذ ذاك منتبذون ناحية يقرأون سورة يس فيكملونها مع إكمال القبر الذي يزاول بسرعة عظيمة، ثم يغطى القبر بصفائح ملساء من الأحجار، تكون عريضة طويلة كأنها تمت إلى الرخام بنسب، وربما تكون صفيحة واحدة كافية للقبر من جانب إلى جانب، ثم يسنم القبر ويوضع على حدي طوله أحجار قائمة تبرز فوق القبر بما يناهز الذراع، ثم يرش القبر وما حواليه بماء، ثم يدعو الناس فينصرفون، وليس من العادة ان يفرق هناك أية صدقة. ثم إذا رجع أهل الميت يعمدون إلى الفأس الذي حفر به القبر والقفة والشبكة والرداء الذين حمل فيها الميت، فيلقى كل ذلك في براز ليس بينه وبين السماء غطاء، فإما في السطح أو في ساحة الدار، وذلك لا بد منه وإن كانت مستعارة من الغير. ثم في اليوم الثالث يقام معروف الميت، وهو عبارة عن طعام يصنعه أهل الميت، فيستدعون إليه حفظة القرآن، فيقرؤون ختمة منه، فيطعمون، ثم ترسل إلى المسجد قصعة واحدة أو أكثر على حسب الطاقة، فيتناول منها من في المسجد، ثم إن القبر بعد أن يسنم كما ذكرنا يوضع عليه زرب يثقل بالأحجار لئلا تعتدي عليه الوحوش فتستخرجه، وتلقى على ذلك الزرب قصبة أو عود كان أخذ به قدر قامة الميت ليتخذ بها مقياس القبر، ثم لا يزال هذا الزرب عليه حتى تمضي أربعة أشهر، فيزال فيصنع طعام آخر مثل ذلك الذي يصنع في اليوم الثالث، ثم ينتهي الأمر وينقطع آخر خيط يصل به الميت وبين أهله، إلا من وفقهم الله فيتعهدون بالصدقات والدعوات، وقليل ما هم، إلا ما كان من العجائز، فإنهن أثبت الناس عهدا فيما بينها وبين موتاهن في كل زمان وفي كل مكان، لانهن بين أخوات أو أمهات أو زوجات، ومتى يجد النسيان إلى قلوب هذه سبيلا. من مخطوط أعراف إلغ وما إليها للمرحوم العلامة محمد المختار السوسي ـ الناشرـ